اقرؤوا في:
مات أعزّ إنسانٍ إلى قلب أمّي طيلة اثنين وأربعين عامًا.
شعور خسيسٌ. أن تقف أمام ميّت.
يتسلّل صوتُ صراخ طفل من النافذة المفتوحة.
الوقتُ منتصف الليل.
تخيّلتُ أنني أنبش في خرد المنزل، أعثر على حقيبة وأملؤها بأجزاء جسده.
ثمّ أرحل.
تقول أمي: “لقد أحبك، إلى أن ظهرت قصة المحكمة العسكرية، هذا أسوأ شيءٍ فعلتَه”.
“كانت علامةً فارقةً هائلة، نعم”.
تهزّ رأسها للأمام وتُعيده إلى الخلف.
“خيرًا فعلوا أنّهم برّؤوني… هذا ما يهمّ، أليس كذلك؟”
تقف في الجانب الآخر من السرير، تلتقط نظرتي. أفكّر: لن تضطرّ إلى تنظيف خرائه بعد اليوم، لا بدّ أنّه شعور جيّد أيضًا.
” لقد عانى…” نظرَت إلى وجهه الأبيض،وأدّيتُ بدَوري حركةً نبيلة بيدي اليمنى- مُطبقًا جفنيه بالإبهام والسبابة.
ثم يصل الشرطي. أمَرَنا، أنا وأمّي، بالخروج، وطلبَ من الطبيب الذي أُرسل مع سيارة الإسعاف، مرافقته إلى غرفة النوم، “والمسعف أيضاً”، قال.
وقفنا أمام التلفاز المفتوح على قناة التسوق. أحبّ متابعة آخر الابتكارات، وواكَبها.
تحرّك أمّي رأسها في اتجاهات مختلفة، يتبدّل وجهها، كما لو كانت تبحث عن التعبير المناسب للحالة من بين مشاهد الأفلام التي رأتها.
يقول سائق سيارة الإسعاف: “لدي تفاصيل شخص سيرتب من أجلك مكافّة المسائل المتعلقة بنقل الجثمان والجنازة، رجل طيّب” ويسلمني بطاقته: زِئيف تشيك تشاك 0544000000.
يغادر الشرطي الغرفة ويتوسّط الأم والتلفاز. “اسمعي يا سيّدة”، قال مُخفضًا عينيه. تُحملقُ أمي في مذيعة ذات شعر أسود خلفه، كما لو كانت تحاول أن تنسج علاقة صداقة معها وهي تقترح عليها فرشة زنبركيّة فاخرة تحوّل الأحلام السيّئة إلى أحلام جميلة.
“أنتم مضطّرون لمرافقتي إلى المحطّة”، تتبدّل تعابير الشرطي المشرقة بتعابير جادّة. “إليكم الأمر …” يريدُ أن يُضيفَ شيئًا لكنّه يتراجع.
تفتحُ أمّي فمَها لكن لا يصدر منه أيّ صوت. تعلن ذات الشعر الأسود أن الأحلام الجميلة لا تكلف سوى ستة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعين شاقلاً، على اثني عشر قسطًا متساويًا.
“نريدُ فرصةً لتوديعه كما يجب”، أتدخّل.
“غير ممكن”، يتحوّل إليّ الشرطيّ بحركة سريعة، “إنّه أداة إثبات حيوية للتحقيق”.
تُحملق فيه أمّي في حرجٍ، تعتريها قوى القصور الذاتي أثناء وقوفها. تلهث بشدّة. أفكّر في لوحات التحكم الداخلية عندها، والتوترات التي تصيبها لحظات قبل الهبوط. ترتعد، تُطلق صرخةً وتهوي على الشرطيّ الذي يبسط يديه دون تفكير. يضمّها. بالطبع، هذه هي اللحظة التي يقوم فيها الجميع تقريبًا بامتصاص الوقت تحسبًا للحدث التالي.
لو كان أبي حاضرًا لقالَ: “آه، بالتأكيد يا جماعة”، ولأنشدَ: “وأنت تسير في العاصفة… ارفع رأسك عاليًا…” ولأكملتُ أنا:”… لا تخشَ … الظلام!”
“كلّ شيءٍ على ما يرام يا سيّدة”، يريدُ الطبيب أن يقيسَ علامات الحياة عند أمّي، لكنّها ترفض وتغنّي كما كانت تغنّي مع أبي، “ثمّة سماء ذهبيّة، والنشيد الفضيّ العذب للعبة القدر.. واصل سيرَك في الريح…”
“إنها أغنيته”، أقول موضّحًا، وأغنّي معها: “… واصل سيرَك في الريح، عبر أحلامك ألقِ نفسك وانفجر…”
“غنّوا معنا”، تقول أمّي مشجّعةً الحاضرين، “واصل سيرَك، واصل سيرَك/ والأمل في يدك…”
في محطّة الشرطة يُجلسنا الشرطي أمام ماكينة للمشروبات الساخنة. ألصقت بطاقة صفراء بلوحة الأزرار. رُسم عليها سهم أزرق يُشير على أحد الأزرار.
تحت السّهم كُتب: “هذا هو، على الأرجح، أكثر زرّ جدير بالكبس عليه”.
تقول والدتي: “نحن متواضعان”، وتقترح أن نتقاسم كأس قهوة.
في غرفة التحقيق، تمرّر كأس القهوة إلى المحقق ونتقاسمها الثلاثة. تروي أمي القصّة للمحقق،تدنو أكثر إلى أطراف الحقيقة.
يقول المحقق وهو يسعل: “كم هو رائع أنّني تعرّفتُ إليكم”. يثيرُ السعال موجةً من الطاقة الحركية. تحرّك والدتي ذراعها إلى أن تمسك يدها بيدي. أتفاجأ من النّعومة.
“أعيش على هذا النّحو منذ أكثر من ثلاثة أعوام… أريد أن أبكي. لكن في لحظات كهذه… وكل هذا حدث ونحنُ نغني، هل حكى لك الشرطي؟ كنّا نردد النّشيد:”لن تسير وحدك … لن تسير أبَ..دًا!” “تحكّ فروة رأسها، تلهث وتلتفت إليّ، “ابني بطل، هل هذا مدوّن عندكم؟”
يصوّب المحقق نحوي نظرةً جريئة ويقترح عليّ بلُطفٍ أن نخرج، أنا وهو، لجلب المزيد من القهوة. تنظر أمي إليّ: بعد كلّ هذه الأعوام التي عاملتُك فيها بالحُسنى، الآن تسلّمني؟
وأنا أيضًا نظرتُ إليها: أحيانًا تطلبين أكثر من اللزوم.
أومأت بعينيها إيجابًا، حسنًا، اذهب، افعل ما يلزم.
بجانب الماكينة، أزيلُ الذراع الاصطناعيّة، أحكّ الجَدَعة المتعرّقة، وأتركها لترتاح. تلتقي عيناي بعيني المحقّق ويقطعنا شعور يخلو من الوديّة.
ينظر في ساعته، “معك ثلاث دقائق لتنهي”.
أقول:”لو رأيت جدعة ساق أبي. قصة مدّتها ست دقائق ستتيح لك الوقت لتستمع أيضًا إلى قصّة يده المبتورة. لغم مضادّ للأفراد… قصة تثير الفزع. قصّتي مدّتها لا تقلّ عن سبع عشرة دقيقة …”
نظر الشرطي في الساعة من جديد.
“إذن هل معنا وقت؟” أسأله.
يشدّ أنفه: “أنتَ تنشف ريق أمك”.
“إنها ليست في عجلة من أمرها”، أقول، ” دائما تقول ‘لمَ العجلة؟’لعِلمك، لو فكّرنا في الأمر، فإنّها نبيّة. لقد تنبأت أيضًا بأنّني سأفقد يدي. رأت ذلك في المنام. في ذلك الصّباح كتبت لي رسالة: ‘اعتن بنفسك، يا بني'”.
وَقفة.
“يبدو الأمر مثل البيضة والدجاجة”، أقهقه، “رأيتُ الرسالة بعد أن أفقتُ من الجراحة. دون ذراع. عرفتُ أيضًا أنّني أستطيع أن أفعل كلّ ما فعله أبي دون ذراع، وهو كثير. ثمّ ابتسمتُ. إليها، لأنّه لم يأت. تذكّرت على الفور الخراء الذي حدث. أقول ‘حدث’. الأمور تحدث، تتدّفق من كلّ صوب داخل الجمجمة، تجعلك تفعل شيئًا تندم عليه لاحقًا.
“أمّك، قتَلَته، صحيح؟”
“يوجد ثمن. لكنني شعرت.. شعرتُ بأنّه يجب علي. أنّني مضطر. مجبور. إنّه التيار، هل تفهم؟ سحبتُ الدبوس الأحمر لصمام الأمان وضغطتُ على الزناد، الأمر الذي كان محظورًا علي أن أفعله. والذي لو أنّه.. ولو أنّه.. ولو كان أساسًا: الأفضل أن تموت. أن تقع في الأسر. أن تخضع للتعذيب إلخ إلخ على أن تضغط على الزناد. لكنّني فعلتها. كما لو كنت أروي مزحة سيئة للغاية، سيئة لدرجة أن الأرض انفجرت ضاحكة. حاكَموني على هذا، ومنذ ذلك الوقت بالكاد تحدّث معي”.
“هذه هي فرصتك … لتحكي. سنفهمك، بصدق. سوف تكون على ما يرام أيضًا. هي أيضًا..” ينظر المحقق إلى الطرف الاصطناعي. “هذا كلّه فائض عن الحاجة”، يقول بنبرة صوت رقيقة.
“أحضر قهوةً لأمّي”، أقول بنفس الرقة: “إنّها… القهوة تجعل منها ملكة. لديها ورم … أنا لا أحبها، لكنها لا تستحق ورمًا. لا أحد يستحق تقريبًا”.
يلامس الأمر قلبه.
“بإمكانها أن تكون رائعة”، أقول، “لقد انقلع. لا أدرك ذلك، في حياتك سيدة عظيمة، السيدة تمرض فجأة، ثم تنقلع؟”
“همممم …” يهمهم المحقق.
ندخل ومعنا قهوة أمي. أجلس بجانب المحقق، قبالتها. يقف هو. تحتسي القهوة وتبتسم إلينا.
أقول:”أمي لقد حكيتُ له”.
“ابني دائمًا يختلق أشياء مجنونة عني، الأمر أشبه بهواية عنده”، تتحدّث إلى المحقق، “لقد حكى لباروخ من متجر الأدوات المكتبيّة أنّه يُغمى عليّ من أيّ شيء صغير، وأنّ زبدًا يخرج من فمي عندما أغضب، وأخبر شموئيل من محل البقالة أن والده يصفعني بيده الاصطناعية عندما يمسك بها بيده السليمة…”.
لكَي تُظهر أنها في حالة جيدة وأنّها قوية، تقف أمي وتقفز في مكانها،تبسط ذراعيها وتغلقهما وهي تفتح ساقيها وتضمّهما.
ينظر المحقق نحوها. نحوي. ثمّ نحوها. يقول:”يا سيدة، اجلسي الآن من فضلك!” ثمّ يُخرجني من جديد.
أقول للمحقّق بأن القصّة بدأت ذات نهار لم أصدق فيه أبي عندما قال إن أمي تعاني من ورم، وأنها تريد منه أن يموت معها.
يعطيني المحقق ورقة وقلمًا ويطلب مني أن أدوّن القصّة كاملة. “أنت كاتب، أليس كذلك؟”
يقول: “انقذ أمك”.
أدوّن:
يوم الثلاثاء قدمتُ لزيارة، وطلب مني أبيأن أعدّ له القهوة. هرول خلفي إلى المطبخ وقال: “إنها مريضة، تعاني من ورم، وعلينا أن نفعل شيئا حيال ذلك”.
“لا يوجد لدى أمّي أيّ ورم”، قلت له والماء يغلي، “من قال لك إنّ لديها ورمًا؟”
“شموئيل من محل البقالة. رأى أوراق الفحص، لفّت بها الخبز، أنت تعرفها، تكره الأكياس البلاستيكية”.
أمسكتُ وجهه بكلتا يديّ وحوّلتُ رأسه بحيث ينظرعبر النافذة، إلى أمّي، التي كانت تسقي السراخس والقواقع التي نمت على صخور الحديقة.
“هل تبدو لك كمَن اقترب أجلها؟” سألته.
“لا”، قال.
لا تبدو. على الاطلاق.
“يا الله”، قلت: “هل يوجد من يقول الحقيقة في هذا البيت؟”
“هل هذا جيد؟” أريتُ المحقق ما دوّنت.
يمرّ على المكتوب، “واصل، هذا رائع”.
في ذلك المساء أصرّأبي على الجلوس في الصّالة دون ساق أو يد. يفعل ذلك على الدوام في السادس من أكتوبر. بالنسبة لأمّي، يشكّل هذا الأمر حالة طارئة، لأنه يصرخ ليلاً: “سفينة معادية هبطت على كوكب الأرض. غزاة مسلحون في المنطقة 8 أ، فليقف الجميع في مواقع دفاعية ، فليقف الجميع في مواقع دفاعية!” عندها يصبح نقله إلى السرير أصعب ما يمكن فعله. لكن هذا العام، بسبب الورم، اتصلت بي وقالت إن أبي سيموت. لقد كانت بحاجة إلى شيء ما يبدو جيدًا. وكان “موت أبي” شيئًا أبديًا.
حسنًا، إنّني بكلّ تأكيد أقول نعم للمثالية، للكرامة وللبحث الدائم عن الحقيقة في جميع أشكالها. لكنني وصلت إلى النقطة التي يشكّ فيها المرء إذا كانت هناك أي حقيقة حقيقية، فهي تشير إلى أن سرمديّة الكون المتعددة الأبعاد الشموليّة يديرها بلا شكّ مجموعة من المضطربين. لم يتّفق والداي في هذا الشأن على الإطلاق. أقصد أنه يواصل بحثه عن الحقيقة وتظل هي تقول له: “هذه طريقك لمغادرة كوكب الأرض، لا توجد إجابة على الحياة واشكر ربّك على مكوثك فيها”.على كلّ، عندما جئتُ، كان التاريخ السابع من أكتوبر. سأل من أكون. ركّبنا له الأطراف الاصطناعيّة. قال إنه مستعد، إنه يرى شيئًا يشبه الحوامة الصغيرة التي تصبّ حولها خزانًا صغيرًا من الضوء الخافت. صاحَ باتجاه التلفزيون: “لقد اخترت ليلة باردة لتزورنا على كوكبنا الميت”. حاولت أن أستفسر منه عمّ كان يتحدث، وقال للتلفزيون، ” لستُ خائفًا، لن تفعلوا بي سوءً، أنا مستعد”. ثم انهار، وعندما انحنيتُ عليه قال: “لكنكم أصبتمونا! هذه الصواريخ …”
رفعناه ومدّدناه على السرير. كانت عيناه مفتوحتين، وانبثق منهما بريق. سقطت ظلال على الجدران. سعل، وطلبت أمّه تسمى الإسعاف. مسك يدي وشدّني إليه، “نظام أوتوماتيكي”، قال وابتلع تنهيدةً. “أجهزتنا الكمبيوتر منتشرة في جميع أنحاء كوكب الأرض، تعدّ الآلاف من السنوات المظلمة، وفي بعض الأحيان يصابون بلَوثة ويطلقون النار لتبديد الملل. سأنزل إلى غرف الماكينات لإصلاحه”.
هكذا كانت النهاية تقريبًا. جلسنا إلى جانبه. نظرت الأم باتجاه النافذة وقالت إنها ترى الحوامة تنزلق إلى رقيع الليل. لم أر شيئًا، فقط عندما نظرت إلى أبي داهمتني لحظة شك، أمكنني رؤية اللون الرمادي يتحرك على جسده. سرمديّة الوقت أثارت قلقي، شعرتُ بوجودها. ما الذي تبحثين عنه؟ سألت، وأعتقد أنني سمعت، بعضًا من الفضول، بعضًا من المغامرة، لكن أعتقد في المقام الأوّل أنّها حكاية شهرة ومال… بكلمات أبي.
قصّتي أقنعتهم.
لم يحضر أحدٌ جنازة أبي.
قالت أمي “هكذا هو الحال”.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع