اقرؤوا في:
رائحته مازالت عالقة بأنفي لا تغادرني، كلّما سحبت هواء إلى صدري احتلتني تلك الرائحة وعادت لي كل العذابات التي عشتها ليلتها. لم أفكر في شيء قبل أن أرسل إليه الخطاب للنشر. كنت منفعلا بما وصلني من معلومات عن البيريتا.
ربّما حان الوقت لأعترف لكم إنني أعرف الحشّاش قبل عملي في الواشنطوني. كنتُ أعرفه أيام عملي الصحفي كمحلّل سياسيّ. معرفته بالصحافة الغربية مكّنتني من كتابة المقالات السياسيّة وشقّت لي طريقًا إلى العالميّة التي لم تكتمل، وهي نفسها التي تسببت في ما حدث لي وحوّلتني إلى مكان آخر وإلى ما أنا عليه اليوم. كتبت المقال ورميته إلى الحشاش ليعدّه للنّشر في صحيفة خارج البلاد، ونمت. نهضت صباحا أعد الدوش. لم أفتح الكومبيوتر لأعرف إن كان قد نشر المقال أم لا. ظل الماء باردا. تركت الحوض عاريا أبحث عن زر معدل الحرارة في الشرفة. لم يكن معي أحد في البيت. كانت زوجتي وقتها تغيب كثيرا عن البيت بسبب شجارنا المتواصل. تقول إنّ مجالسة الكناغر صارَت أرحم من مجالستي وإنني لم أعد إنسانًا يُطاق وإنّ الوقت قد حان لتنفذ ما كانت تخطط له من زمن.
لم أتوقع أن يخلع الباب وأجدهم أمامي. رجال طوال ببدلات سوداء وقمصان بيضاء. أمسكني اثنان منهم ووضع الثالث كيسا من القماش على رأسي. لم أعد أرى شيئا. لفوني بشيء عرفت بعدها أنه شرشف الكنبة بالصالون. جروني فاستجبت. لم أقاوم. قبل أن أغطس في ذلك الظلام رأيتهم. من الحمق أن تفكر في مقاومة أولئك الرجال الطوال الغلاظ وأنت تراهم فما بالك ورأسك محشور في كيس أسود. ظللت مركزا على الخطوات على درج العمارة وأنا أنزل معهم. كنت أعثر فيه كل يوم. خمس وعشرين درجة سلّم كان علي أن أنزلها هذه المرة معصوب العينين. أنصت إلى عدد الخطى على الدرج. بدا لي أنهم أكثر من ثمانية. في آخر ذلك الركض شعرت بنسمة الهواء التي جلبت لي معها رائحة المجاري. الأكيد أن السيارة التي زجوني فيها كانت تقف هناك قريبا من مفتاح قنوات الصرف لذلك غمرتني الرائحة. فكرت. السيارة التي ركبتها تبدو بلا كراسي. دفعوني إلى صندوقها الفسيح ولم أصطدم بشيء. شعرت أن السائق بعيد. كان يمكنني أن أستشعر ذلك من صوت المحرك. تخيلت أنها سيارة الشرطة واستبعدت أن يكون من اختطفتني عصابة أو جماعة ثم قلت في نفسي إن العصابات أيضا في الأفلام تستعمل المركبات الكبيرة الشبيهة بمركبات الشرطة ولا يمكن أن تميز الواحدة عن الأخرى إلا بالنظر. كانت السيارة تسير بسرعة ولا تطلق أي انذار يشير أنها سيارة رسمية. إسعاف أو شرطة أو سيارة مطافئ. فلا أحد وضع في معصمي شيئا. فقط جروني وهم يلوون ذراعي خلفي. ذلك ما رجح عندي أنه اختطاف وليس اعتقال. بعد ساعة أو ربما ساعة ونصف هذا ما أعتقده، توقفت السيارة وجروني إلى خارجها ثم شعرت أنهم يجروني نحو بناية. حاولت التركيز مرة أخرى في عدد درجات السلم. هذا ما تعلمته من كل التوقيفات والاعتقالات التي حدثت لي سابقا. علينا أن نعتمد على حواس أخرى إذا وقع تعصيب عيوننا. كانت عشرين درجة. لكن هذه المرة كانت غريبة. لأول مرة أحشر في سيارة صامتة. بعد مسيرة قصيرة أدخلوني قاعة. لا أعلم إن كانت مضاءة أم لا. كان الكيس الملفوف فوق رأسي من الكتّان العازل للضوء. على كرسي غير مريح أجلسوني ولفوني بحبل. كان خشب الكرسي يتمايل تحتي وبي. وكنت أنتظر أن أسقط في أي لحظة منه.
اقترب مني أحدهم. كانت رائحته مميزة. تبغ ثقيل. عندما قرب وجهه مني التقطت تلك الرائحة. رائحة نبيذ رخيص. عندها سمعت آخر يقرأ بوضوح جملا من مقالي الذي كنت أرسلته البارحة للنشر:
“إن اختفاء وسيلة الجريمة من مجموع الأدلة التي ضبطت دليل أن هناك شبهات كبيرة من داخل فرقة التحقيق. فمن سرق البيريتا؟ هناك شيء غامض علينا كشفه. صندوق أسود لهذه القضية. من يحمي هؤلاء القتلة. هل فعلا هناك جهاز أمني موازي ينفذ عمليات اغتيالات نوعية تستهدف الزعماء المنافسين لأصحاب ذلك الجهاز؟”
اقترب مني صاحب الفم الأبخر:
-لماذا كتبت ذلك الخراء سيد يوسف غربال؟ من الذي يمولك؟ من الذي يدفع لك؟ مع من تشتغل؟ هل تعلم تهمك؟
لم أكن معنيا بالإجابة إلى غاية ذلك السؤال فانفجرت:
-من أنتم؟ أنا لا أفهم ما تفعلون؟
-أنت متّهم بالتخابر. التخابر مع جهات أجنبية والإساءة إلى سمعة تونس في الخارج وترويج أخبار كاذبة عن أمن البلاد في فترة عصيبة.
-كل هذه التهم من أجل مقال؟
-نحن نتابعك منذ بلوغك. ونعلم ما تفعله وأنت تعلم أن ملفك عندنا.
– هذا يعني أنكم الشرطة. لماذا تعصبون عيني هذه المرة؟ قلت محاولا تحريك رأسي منزعجا تحت الكيس.
-من حرضك؟ لماذا هذا التوقيت بالذات؟
-لا أدري عمّ تتحدثون.
سمعت الصوت البعيد الهادئ يقول: ستيلا، نفذّ.
كان الأبخر قريبا مني ورائحته تغرقني عندما قطعه. شيء مثل النار سرى في جسدي من قدمي حتى دماغي. لم أعد أذكر شيئا. فقط وجدت نفسي على فراشي إبهام ساقي اليمنى ملفوفا في ضمادة طبية حولها سائل أحمر.
“هذه المرة إصبعك، المرة القادمة”…. همسوا في أذني. ” نحن هنا لنقضي على أمثالك، سنقتلع كل شيء يتحرك فيك المرة القادمة. زرعنا هنا لنقتلع أمثالك من الفاسدين. دفعني أحدهم على الأرض ثم أجبروني على ترديد الجملة: ما عندناش بيريتا في تونس . ماعندناش بيريتا. ” رأيتني في منامي وأنا أصرخ “ماعندناش بيريتا….ماعندناش…. “
أمام التلفزيون بالمقهى المجاور الذي هربت إليه من كوابيسي خرج وزير الداخلية الهادي المجذوب على قناة “نسمة” بمجلس نواب الشعب يتحدث في بهدوء: سلاح البيريتا الذي أستعمل في عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد غير مستعمل في تونس وليس متداولا لدى الوحدات الأمنية بمختلف أصنافها”.
أنزلت عيني نحو مكان الإصبع المقطوع. كانت كل أصابعي الأخرى تصيح “ماعندناش بيريتا في تونس”.
لو لم أذكر ذلك السلاح اللعين ما كانوا فعلوا بي هذا. كم صرت بشعة أيتها القدم. ليتني ألقاك أيها الحشاش لأفرغ فيك مخزن البيريتا كاملا.
كمال الرياحي، فصل من رواية “البيريتا يكسب دائمًا”، منشورات المتوسّط، 2019.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع