اقرؤوا في:
على مدخل العمارة كان حذاء أسود. نزلت لشراء علبة سجائر وبضع حبات بندورة. حذاء أسود، فردة واحدة، على البلاطة الثانية بعد عتبة العمارة قرب الأدراج المرصوفة ببلاط لا هو أبيض ولا ملوّن، بل مجرّد حالة تتراوح بين فاتحٍ وغامقٍ لشدّة ما مرّ فوقها الزمن، وأحذية الصاعدين والنازلين من والى عملهم، ومدارسهم، وزيارة أهلهم، وأصدقائهم، وخروجهم لا لشيء إلا للترويح عن النفس في مساء طيّب النسمات أو في صباحات أيام العطلة الأسبوعية. وربما الى مقهى قريب، أو دار سينما، أو اجتماع لأيّ هدف. وقد يخرجون الى دكان، أو عيادة، أو سوق أو لتسديد فواتير الكهرباء والماء في البنك، أو إرسال رسالة في البريد. أو يضطرّون للنزول من طوابقهم العلوية حتى المدخل لإرشاد موزّع بالونات غاز الطبخ الذي بدأ العمل حديثًا مع شركة التوزيع على موقع بالوناتهم التي خوت والتي يجب استبدالها، فهناك أفواه وبطون تجوع، وأيادٍ ونفوس تريد لها ساعة من الانشغال البطيء اللذيذ بإعداد طبخة بعيدًا عن كل الهموم التي قد تتألّف من متاعب العمل، أو المشاكل العائلية، أو الخصومات العابرة مع أهل أو أصدقاء، أو الخشية من الغلاء، أو القلق على ما سيحدث غدًا للوالدة التي لا تزال تشعر بألم غريب في الخاصرة، أو عدم تلقي إجابة من محلّ العمل الذي تم إرسال السيرة الذاتية اليه منذ أسبوعين دون ردّ.
غريبٌ أن تكون فردة واحدة لحذاء حاضرة بهذا الشكل هنا. كعبها للخارج ورأسها الحادة نحو الداخل. لا تزال صالحة للانتعال بل يمكن اعتبارها جديدة، فشيء من اللمعان لا يزال يلوح عليها. يكفي قليل من الورنيش الأسود لمسحها بثلاث أو أربع حركات رشيقة بل حتى ثقيلة وستعود كالجديدة تمامًا. بالضبط مثلما يعود الشخص يانعًا بفضل حمام ساخن بطيء بعد غفوة لساعتين عصرًا، قـُبيل الخروج مساءً الى مطعم مع أصدقاء أو حتى وحيدًا الى مقهى متواضع قريب أملا في لقاء معارف وأصحاب، أو لمجرّد البقاء في البيت والاستماع لموسيقى أو قراءة رواية أو صفحات المقالات أو المنوعات في صحيفة اليوم، بل حتى بضع صفحات من ملحق الأسبوع الفائت أو الجلوس بكسل وشرب كأس في هواء الشرفة.
فردة حذاء غير بالية على مدخل عمارة كبيرة ليست بالحدث اليومي الذي يتكرّر. قد يحدث هذا للبعض مرّة في السنة. أو كل خمس سنوات لآخرين. وقد لا يحدث لهم بالمرة حتى لو عاشوا عمرًا مديدًا. أنا مثلا، هذه أول مرّة يحدث لي ذلك، كما لو أن الأمر شيء من النوادر بل من العجائب التي لا يحظى بها سوى المحظوظين، سواء خيرًا أم شرًا. مثل الحب المثير للارتجاف الذي يأتيك من غير مواعيد ويُسمَع صداه في نبض متواتر للقلب خلف قضبان القفص الصدري، والذي لا تعود تعرف كيفية التصرّف ازاءه، فأنت فرِحٌ به كطفل لكنك خائف منه كطفل أيضًا على انتهاك عزلتك التي ستظلّ هي الأخرى تثير فيك الخوف دومًا. أو أنه مثل السماع فجأة عن حادث طرق يقتل صديقًا قديمًا لم تره منذ سنة ونصف السنة، ولم يخطر ببالك كثيرًا، ولم تهاتفه، بل إنه حين هاتفك مرّة فلم تنتبه للردّ عليه، لم تحاول الاتصال به بنفسك، فيختلط عليك الحزن بمشاعر الذنب والخجل لأنك الآن شخص يقف عاجزًا أمام موتٍ قريب جدًا منه لم يحسب له حساب، فجاء كطرقة عنيفة على بابك في ساعات ما قبل الفجر الحالكة السواد وانتشلك من دفء فراشك وسذاجة أحلامك فقمت متوجّسًا لتفتح وعقلك يضجّ بالقول: الله يكفينا الشر. فلما فتحتَ ووجدتَ أن لا أحد على الباب، لم يزدكَ الأمر سوى توجّس وغرابة. وقد يكون حدث فردة الحذاء الوحيدة الجديدة على باب العمارة، أقرب الى رؤية بقايا ثياب مدعوكة بالرّمل البني الأصفر على شاطئ، تعود لشخص دخل البحر فمات غرقًا ثم أعادها الموج كإشارة لأهل الأرض ودليل لهم على ابتلاع واحد من أبنائهم أو بناتهم في مقبرة البحر.
من المخيف الاقتراب من فردة الحذاء، هل يمكن أن تكون غرضًا مفخّخًا بالبارود يستهدف أحد الساكنين مما يستدعي استدعاء خبراء المتفجرات، أم أن في الأمر مسألة غريبة جعلت هذا الحذاء يحُطّ هنا كعلامة على الخواء، خواء الحذاء من قدمٍ قرب مطلع درج، أو مهبط درج، وخوائه من حالته الطبيعية التي يجتمع فيها عادة زوج من فردتي حذاء. هل يحمل هذا الحذاء المفرد الوحيد تحت خمسة طوابق مأهولة بعشرات البشر صرخة لهم جميعًا بأن انتبهوا من الحياة؟ هل يريد القول لنا: أنا كالحياة ويومًا ما ستغادرونها بكل تلك البساطة والعاديّة والهدوء التي تغادرني بها أقدامكم يوميًا قبل أن تأووا الى نومكم؟ هل يعرض نفسه كنصب لمعنى الموت والخواء الذي ينطوي عليه، على سبيل التذكير بأن ذكّر إن نفعت الذكرى؟ أم أن وجوده هنا بكل سواده الحاد هو محض صدفة عاديّة من تلك الصدف اليومية التي يموت فيها بشر مغمورو الأسماء والوجوه والسّيَر الذاتية من دون أن يكونوا قد فعلوا شيئًا يستحقون العقاب عليه بكل هذا الموت.
تابعتُ طريقي الى الدكان. لم أجد سجائري فيه. ذهبتُ الى دكان في الشارع الثاني. عُدتُ بسجائري، بل أشعلت إحداها في الطريق ونسيتُ البندورة. حين وصلتُ مدخل العمارة كان الحذاء قد اختفى، وسرت فيّ قشعريرة باردة. فقد بدا لي المكان شديد الخواء مثلما لم يبدُ لي في أيّة مرّة من ذي قبل.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع