الصينيّون

15 دقائق

الصينيّون

15 الدقائق

Remove from my favorites

يوم دخول الجيش الصينيّ، حضر أخي ليسكن معنا وقد وصل مباشرةً بعد الاستسلام وتسليمهم القدس. عمليًا، لم أنجح في فهم كراهيّتهم العمياء للعربفقط في بادىء الأمر. وصلت شائعات غريبة إلى القدس من العراق وسوريا، من أراضي شرق الأردن. كان من الصعب تصديق أنّهم، في الوقت الذي كانوا فيه يقاتلون في سيبيريا وألاسكا وأستراليا ومصر، وجدوا وسائل لنقل المدنيّين الصُّفر وتوطينهم بالآلاف في القرى والمدن المهجورة، في الدول العربية. أما نحن، فقد نظروا إلينا كمجموعة صغيرة يمكنها أن تكون وسيلة مساعدة لهم في هذه الأثناء. وإلى أن يغيروا رأيهم، قد يُحسم مصير هذه الحرب الرهيبة، لأنني لا أعرف كم من الوقت ستستمر هذه الحصانة التي حظينا بها في الوقت الحالي. أخي، الذي كلّما طالت مدّة عمله عندهم كسائق مرشد لأحد ضباطهم، فهم أكثر لغتهم الغريبة، وهكذا زاد ترويعه لنا بقصصه حول مصير العرب.

في البداية لم نصدّق كل هذه الشائعات. كانت الأمور واضحة. على سبيل المثال، نهبوا من عرب القدس كل ما هو ذو قيمة. بدأوا بالسجاد وأجهزة التلفزيون. وقبل بضعة أشهر، نهبوا أجهزة الراديو، الترانزستورات وجميع الأجهزة الكهربائية. كانت علاقتنا مع بقية البلدان محدودة للغاية. لم يعبر أحد تقريبًا حدود ما وصفوه ب “مناطق التطوير”. لكن على الرغم من ذلك وصلت إلى مسامعنا أخبار من هنا وهناك. لم تكن في حيفا وتل أبيب تجمعات عربيّة كثيرة. الحفنة القليلة من عرب حيفا تمّ نقلها إلى الناصرة. والمناطق العربية الرئيسية، مثل وادي عارة ونابلس- جنين أو بيت لحم – الخليل، تمّ إغلاقها وتطويقها بحراسة عسكريّة. ثم وصل المواطنون الصينيون فجأة برفقة زوجاتهم وأطفالهم، جماعاتٍ جماعات، واستقروا في قرى العرب. أين اختفى العرب؟ التحدث عن ذلك بصوت عال كان أمرًا محظورًا. شيئًا فشيئًا، اتّضح لنا، دون أدنى شك، أنهم يقتلوننا بأعدادهم الهائلة. يبدو أنهم فعلوها أيضًا في العراق وسوريا وجميع الدول المجاورة.

يفعلونها بطريقة بسيطة وناجعة. يحفر العرب حفرًا. يخبرون الجميع بأنّ هذه الحفر ستشكّل أساساتٍ لدار الثقافة الصينيّة الضّخم، والذي سوف يشيدونه تكريما لماو (المقصود ماو الثالث، لمَن لا يعرف السلالة الحاكمة). ثم يحشدون جميع السكان ليلقوا أمامهم خطابًا. تصل مروحية وترشّهم من فوق، فيقعون دون صحوة. أخبرني أحدهم أن الكيبوتسات تتلقّى حصصًا خاصة من الوقود لتغطية هذه الحفر باستخدام العدّة الميكانيكية القليلة المتبقية في أيديهم. أعتقد أنه يحظر لمس الجثث مدّة تقارب شهرًا من وقت الرش. لم يكن للمسألة علاقة بالكراهية، كما اعتقدتُ في البداية. كانت عمليّة منفّذة بهدوء وبحسابات واضحة. كان جول فيرن قد تنبأ باحتلال الصينيين العالم. يبدو أنهم قرروا أن يدمّروا الأمم العظيمة ويرثوا مدنهم وقراهم، بكل ممتلكاتها، باستثناء الملابس التي دفنوا فيها الموتى. أما بالنسبة لنا، فمجرّد حقيقة كوننا شعبًا صغيرًا وموهوبًا قد أنقذتنا بشكل مؤقّت. هكذا، تم تأكيد الشائعات الغامضة التي وصلتنا من الهند في بداية هذه الحرب.

أول أمس، عادت زوجتي من المستشفى الذي كانت تعمل فيه كممرضة في قسم التوليد. كانت مصدومةً .

أخرجوا النّساء العربيّات ولم يفتح أحد فمه بكلمة. حضر طبيب صينيّ وفحص جميع النساء جيدًا. العربيّات اللواتي وضعنَ، أخذوهنّ مع أطفالهنّ. حاولت زوجتي إنقاذ طفل من بين زوج من التوائم، حتى تربّيه عوضًا عن ابنتنا، التي قُتلت في ظروف مأساويّة قبل حوالي عام، يوم اندلاع هذه الحرب العالمية، والتي نأمل أن تكون الأخيرة. رفض مدير القسم أن يخفيه وقال إنه لا ينوي تعريض المستشفى للخطر بسبب طفل عربي. لم تذهب إلى العمل منذ ثلاثة أيام. تدور في البيت رائحة غادية طوال الوقت وتتشاجر مع أخي. لا أعرف ما الذي تعتزم فعله، ولكن من تعابير وجهها واضح أنّها ستفعل شيئًا. بالكاد تحدثت معي منذ ذلك اليوم. لا يمكنها أن تغفر لي عدم إدانتي للطبيب بشدّة وحزم، ولكن كيف يمكنني أن أدينه؟ ماذا كنت سأفعل في مكانه؟ لقد صدرت الأوامر وتم إلصاقها في جميع الأماكن، والتي تنصّ على أن من يُخبىء رجلاً عربيًا، أو امرأة عربية، أو طفلًا عربيًا في منزله أو في مكان عمله، أو يساعد على إخفائه، عقوبته الموت. أعرف مدير قسم الولادة من أيّام المدرسة. كان فتى سمينًا وطيّبًا. ما كان ليعرّض جميع المرضى والأطباء اليهود الآخرين للخطر. ربّما لن يضرّوهم أو يعدموهم، وإنّما فقط المسؤولون بشكل مباشر، أي هو وزوجتي. وربما طبيب آخر من القسم. زوجتي صغيرة في السنّ وفيها حماس كبير لإنقاذ الأرواح، ولكن لا يمكنها أن تطلب منه أن يخاطر بحياته. صحيح أن الطفل العربيّ مثله مثل أي طفل آخر. لكن أليس المثل القديم القائل “فقراء بلدك أولى” ثمرة حكمة شعبية واقعية رشيدة؟ للدكتور ألون زوجة وأولاد ولا يمكنه أن يخاطر بحياته، وزوجتي لا تغفر لي على تعليقاتي هذه.

مرت ثلاثة أيام على نومنا في غرفتين منفصلتين، وهو ما لم يحدث منذ زواجنا قط. قطعت حديثها مع أخي تماما، فقد بدأت تشكّ في أنّه يتعاون معهم فيما يتعلّق بالعرب. لو استمر الأمر على هذه الحال بضعة أيام أخرى لالتهم الواحد منا الآخر ببطء. لكن اليوم انفجر الأمر.

وصل أخي كالعادة، ظهرًا. جلسنا لتناول الطعام. لم يصدر صوت سوى قعقعة الأطباق وصوت مضغ أخي الفظ. كانت زوجتي  تمخط في كل مرة وتنظف أنفها، كما لو كانت مصابة بسيلان الأنف. لم أكن متأكدًا إن كانت مصابة بالبرد فعلاً أم كانت منفعلة ولم ترغب في أن نعتقد أنها تبكي. مرّ تناول الحساء بسلام. فكرت في هذه المفاجأة التي أعدتها لنا، إعداد حساء البصل مع قطع الخبز المحمّص المغطّى بالجبنة الصفراء التي تعوم في الأطباق. ظننت أن ذلك قد يكون علامة على ذوبان الجليد في العلاقة. لمّت الأطباق ووزعت اللحم بصمت. كانت دجاجة أقنان تحوّلت إلى البرية واصطادها الضابط الذي يعمل عنده أخي، في إحدى القرى الخالية، وسلّمها له كهدية. شَرَعنا في أكلها. جلست هي أمام طبقها ولم تأكل.

“لماذا لا تأكلين؟” سألتها.

“أشعر أننا نأكل جثتها”، قالت وهي تنظر إلى أخي الذي انفجر ضاحكا.

“لا أفهم- قالت وألقت شوكتها بقوّة على الطاولة، –ألا تشعرون بفقدانكم لإنسانيّتكم؟!”

قال أخي: “أنا لا أشعر، يا حلوة”.

واصلتُ الأكل. لم نتناول اللحوم منذ شهر ونصف.

قالت لأخي: “أنت بهيمة. أحتقرك، أنت مجرّد من العاطفة الإنسانية”.

“ماذا تريدين منّي أن أفعل يا حلوة؟”

“توقف عن مناداتي هكذا!”

قال: “وأنت، لا تنعتيني بأسماء تحقيريّة”.

خِلت أنها سترمي الطبق في وجهه.

راقبتها وهي تحاول أن تضبط نفسها. أبعدتُ طبقها للاحتياط.

“إنقاذ اللحم، ها؟” قالت لي بسخرية.

قلت مزدردًا تعليقها: “نحن نقيم هنا معاً ولا يمكننا أن نحوّل حياتنا إلى جحيم. لقد تسبّبتِ في ذلك، في الأيام الثلاثة الأخيرة”.

قالت باتّقاد: “لا أحد منا طيّب أو مثاليّ. وحياتنا كلها على حالها، إلا لو حاولنا وبذلنا جهدًا في فعل شيء على الأقل”.

قال أخي: “مثير للاهتمام”.

واصلت كلامها: “كلّنا مدركون أنه من المستحيل إنقاذ كل العرب، لكنني سأنقذ طفلا من الأطفال الذين أعرفهم، طالب أو عوض”.

“كيف؟” سأل أخي.

“سوف تساعدني”.

الآن اتّضح المعنى من وراء حساء البصل.

“أنا؟ أنت مجنونة، مجنونة، يا امرأة، لا دراية لك عمّا تتحدثين. هذه رومانسية لا معنى لها، عندما تقبعين في السجن، فإنّك، لن تفكري في كل هذه الأشياء الجميلة، قبل أن يعدموك، يا حلوة. آسف، لم أقل ذلك لأضايقك، حسنًا؟ أنا فقط أتظاهر، هذه طريقة إغاظة تعبيرًا عن الودّ لك. هل تعتقدين أنني غبيّ أو بلا روح؟ لكن عليك أن تفهمي أن حياتك معرّضة للخطر. وحياته أيضًا”، قال مشيرًا إليّ. “ناهيك عن نفسي.  لا بدّ أنّك تريدين منّي أن أهرّب أحدهم في سيارة الضابط الذي أعمل عنده، صحيح؟”

“بالضّبط. من المدينة القديمة قد يكون الأمر صعبًا، لكن من أبو طور سيكون الأمر هيّنًا”.

نظر إليّ أخي ثم قال: “سأخبركما بالحقيقة. أنا واثق من أن العرب بشرٌ مثلنا تماما. ليس بالضبط، إلا إذا تمّت تنشئتهم بطريقة مختلفة وكل هذا الهراء. لكنّهم سيظلون عربًا، كما بقينا نحن يهودًا. أعتقد أن الحرب ستنتهي في غضون سنة تقريبًا، ولن تُحسم لمصلحتهم. الأمريكيّون مضطرون لكَسب الحرب. ونحن”، ضرب بقبضته على الطاولة، “سنتخلّص في هذه الأثناء من المشكلة العربيّة! هل تدركان معنى أن لا يكون هناك المزيد من العرب، أو على الأقل ألا يتواجدوا في هذه المنطقة؟ وهنا، في القدس، سنشيّد الهيكل، بأيدٍ نظيفة، دون أن نكون قد مسسناهم بسوء. الصينيّون سينفّذون المهمّة بدلا منّا. إنها معجزة، حدثت بقدرة قادر. سوف يقضون على العرب ثمّ يُهزمون قبل أن يصلوا إلى النهاية. لا تظّنا أنّني لا أتألّم وأنا أراهم يُقادون إلى وادي هنوم”.

“رأيت؟ لم تحكِ ذلك من قبل”، قالت زوجتي.

قال: “لا أستطيع أن أحكي. بفضل ذلك، ما زلنا نقيم في شقتنا ونأكل مثل البشر، ويتوفر لدينا الماء الساخن للاستحمام، لكن ليس هذا هو سبب عَملي لصالحهم”.

“هل أنت حقا مجرد مرشد وسائق؟” سألت زوجتي بنبرة شك.

لا”، قال أخي. “أنا أساعدهم على التمييز بين اليهود والعرب. في نظرهم، جميعنا نمتلك نفس الوجه الأبيض”.

“هل تساعدهم في العثور على العرب؟” قالت زوجتي بنبرة شبه هامسة. ثم وقفت وصرخت: “اخرج من هنا، اخرج من هنا! اخرج من بيتي! قاتل!قاتل!قاتل!”

لم يتحرّك أخي من مكانه.

قلت: “تمار، لقد قررنا أن نتحدث بصراحة وأن نوضح الأمور. أنت تفقدين صوابك. اهدئي”.

“ألن تطرده من المنزل؟”

“لا، إنه أخي”.

“إذن، سأرحل”.

قال أخي وهو ينهض من مكانه: “هشششش. لا يجب أن أبقى هنا طالما لم ترغبي في ذلك.  أتعجّب فقط كيف ستهرّبين العربيّ الصغير”.

قلت:”هذا صحيح. اجلسي”.

“سنشيّد الهيكل”، كررت كلامه هامسةً. “وحش”.

قال أخي: “لم نخطئ ولم نرتكب جرمًا”.

“عندما تقتل بشرًا من حولك وتساعد في القبض عليهم …”

“أنا لا أساعد في القبض عليهم. أنا فقط أنقذ اليهود الذين تم القبض عليهم عن طريق الخطأ. هذا كلّ ما في الأمر. ولا أفعل أكثر من ذلك. أهرّب أجهزة التلفزيون والراديو وأتقاسم الأموال مع الضابط الذي أعمل عنده، وهذا هو عملي الخاص الذي تستفيدين منه أنت أيضًا”.

“لم أعد أصدّقك. لكن لنفترض أنك لا تفعل أي شيء، هذه إذن خطيئتك، أنّك لا تفعل! ألا تفهم؟”

قال أخي: “ربما. لكن أبناءك وأحفادك سوف يشكرونني على ذلك. هل تفهمين معنى أن تكون لنا دولة لا عرب فيها؟ ناهيك عن الدول المجاورة”.

  لو لم تكن في حاجة إليه لتنفيذ خطتها، لكانت ألقت شيئًا على رأسه في تلك اللحظة.

توقّف”، ناشدتُه. “لا نريد أن نسمع آراءك بعد الآن”.

“هل أنت على استعداد لمساعدتي؟”

“لا”، قال أخي.

“وهل أنت مستعدّ لإعطائه السيّارة”، أشارت نحوي، “وزيّ القيادة خاصّتك؟”

“لا” قال أخي. “إلا إذا سرقتموها”.

استسلم أخي. كان يحبها منذ البداية. أعجب بها لشجاعتها. إلا أنّه استسلم الآن على حسابي.  زحف الخوف إلى معدتي. هل أفعلها؟ أنا؟ فليحمني الربّ”.

زرّر أخي قميصه.

قال: “سأعود في المساء. في هذا الوقت، جهزا خطّتكما. أسرعا، لأنكما قريبًا لن تجدا أحدًا كي تنقذوه. وليكن معلومًا لديكما أنّني سأشهد ضدّكما إذا وقعتما، وإذا قلتما أنّني اقترحت عليكما أن تسرقا سيارتي، سأضحك في وجهيكما. زيدا على ذلك، في حال أن أحضرتما عربيًا إلى المنزل فعلا، سأترك الشقة على الفور وعندها لا أعتقد أنّهم سيبقونكما في هذا الحيّ، فهو قريب جدًا من المدينة القديمة ومن فندق ماو (فندق الملك داوود سابقًا).  متى طردوكما من الشقة، فإنهم سيعثرون فورًا على العَربوش لقب ازدرائيّ يُطلق على العرب. “.

“سأقوم بتزوير الشهادات وسيظهر بصفته إبني”.

“لا يمكن خداع الكمبيوتر الإلكتروني”.

“لدي علاقات مع أحد الصينيين”.

“أوه!” قال أخي. “أنت أيضًا؟”

“ذاك الشخص الذي أنجبت زوجته عندنا بعملية قيصرية”.

“ما رُتبته؟”

“إنه ليس عسكريًا. هو يعمل في التحديث المحوسَب لسجلّ السّكان”.

“أرى أنك قد أعددت الأمر منذ وقت طويل”، هزّت زوجتي رأسها.

“إنهم حقًا متلهّفون لمضاجعة النساء البيض”، أضاف ساخرًا.

“أطالبك بالانضباط”، علّقتُ بصفتي مترأسًا لهذا الجدال.

لم تشعر زوجتي بالإهانة. نظرت إلى كلينا لوهلة ثمّ قالت بسطحيّة:

“سوف أضاجعه لأحصل على مطلبي”.

“ماذا؟” قلت.

قالت: “نعم. لن ينتقص ذلك من قيمتك”.

“لا يكفي أنّني مضطرّ للمخاطرة بحياتي وحياتك،  بل تنوين أن تضاجعي هذا الفستق؟”

الفستق” كان لقبًا ازدرائيًا أطلقه العوامّ على الصينيين. أعتقد أن مصدر الاسم برعم يشبه الصينيّ الملتحي. في طرف أحد شقّي حبّة الفول السوداني، بعد شطرها إلى نصفين، قبل أكلها. أذكر أنّ والدي كان يسمّيها “يهودونيم” لقب ازدرائيّ عنصريّ لليهود. .

“لا تظنّي أن الأمر سينتهي عند أوّل مرّة”، علّق أخي.

اعتمر قبعته وغادر.

“أنت مجنونة، امرأة مجنونة. صالِحة. اللعنة!”، قال قبل أن يصفق الباب. سمعناه ينزل بالقفز درجتين ثلاثًا. بقينا لوحدنا

قلت بقلق: “تمار، أخشى أنّني لم أُخلَق لهذه الأعمال، أنت تعرفين أنني لم أكن جنديًا يومًا، وعندما يخطر في بالي كيف سأدنو من نقطة التفتيش بسيارته، كل شيء داخلي يرجف من الآن. سوف أسلّم نفسي على الفور، ولا فائدة ترجى من وراء ذلك”.

“ألن تساعدني؟”

رأيتُ نظرة يأس على وجهها، مددتُ يدي لكنّها صدّتني.

“ألن تساعدني؟ لا أفهم، لقد شرحت لي بشكل رائع على الدوام جريمة الصينيين المحسوبة.  أجدتَ تمامًا برهنة المشترك بين بني البشر كافة. أين ذهب كل هذا الكلام الآن؟”

قلت: “تمار”، وفي الواقع لم يكن لدي ما أقوله. ماذا أمكنني أن أقول؟ كنتُ أؤمن فعلا بهذا الكلام الذي ألقيته أمامهم.

قلت بشجاعة: “لو كنت رجلًا ضعيفًا وجبانًا، فهل هذا يعني أنني أكذب؟ أنا لا أكذب. أنا أؤمن فعلا بصحة هذا الكلام. العرب في نظري هم بشر مثلهم مثل اليهود. حتى الصينيون بشر في نظري. لكنني لا أستطيع أن أخاطر بحياتي من أجلهم. بمجرد أن يخطر في بالي كيف سيقبضون عليّ، كيف سيجرونني إلى المجمّع الصينيّ (المجمّع الروسيّ سابقًا) وسيحاولون أن ينتزعوا مني أسماء شركائي في الجريمة بالتعذيب، قبل أن يقطعوا رأسي. لا يهم، فلينغرز في إحدى الدعامات. لن يسبّب ألمًا بعدها”.

قالت زوجتي: “لا أستطيع العيش معك”.

لم تقل ذلك لتضايقني. نظرت إلي نظرة ألم. فتية جدا. نظيفة جدا وبريئة. الآن كانت على وشك القيام بشيء، بسببه ستمزّقها الحيوانات الصفراء إلى أشلاء.

سوف ترتدي زيه العسكري. التشابه بينكما يكفي لتضليلهم. سيكون الجوّ مظلمًا، ومع أوراقه لن يقع لك أيّ ضرر. ضع أحد هؤلاء الأطفال تحت المقعد بنفس الطريقة التي يهرّب بها أجهزة التلفزيون. لن يمسكوك”.

“وإذا فتّشوا؟”

قلت في نفسي أنه سيأتي يوم أحاسَب فيه على أفعالي. أنا المفكّر الإنسانيّ المرموق، البروفيسور بن-دافيد، ماذا فعلت كي أنقذ العرب؟ هل يمكنني أن أقول إنّ خوفي يُحسَب لمصلحتي؟ أنني خفت من التعذيب؟ أنني غير مناسب؟ يعرف الناس بالضبط من يفعل ومن يتحدث فقط. جلست زوجتي. دفنت وجهها بين يديها وشعرها المتناثر انزلقت بين أصابعها إلى الأسفل. الخوف. هذا الخوف الرهيب.

“هل ستفعلها؟” سألت.

قلت: “نعم. غدا. سأذهب أولا لأتناول من المختبر القليل من سيانيد البوتاسيوم، لأنّني سأنتحر إذا قبضوا علي”.

“أنت تجعل من الأمر شيئًا خطيرًا ومأساويًا أكثر من اللازم”، قالت. “ستسافر إلى هناك ، ستأخذ أحد الأطفال وتحضره إلى هنا. خذ طفلة، لن يحدث شيئًا. المهم أن أتمكن من إستخراج المعلومات حول وفاة طفلتنا ميري من جهاز الكمبيوتر. سأخبره أننا نسعى إلى تبني طفلة ولا نريد أن يعرفوا أنها طفلة متبناة وليست من صلبنا. حتى لو لم يصدّقني ربّما يساعدني. يمكننا حتى أن نرسلها إلى المدرسة”.

“أنت ساذجة يا تمار، سوف يبلغون عنا”.

“من؟”

“هل ينقص هنا في الحيّ كارهون للعرب؟”

“لو كان بإمكاننا الانتقال  إلى مكان آخر …”

قلت: “ربما يساعدني أخي، وهكذا يتخلّص منا جميعا”.

“أنا أزدريه هو وأمثاله، أنت تعرف ذلك. في أشدّ الحالات، سنبني جدارًا عند مدخل المخزن ونحدث فتحة عبر العلية ونخبئها هناك. أو ربما في مخبأ الأسلحة، حيث يمكننا قضاء الوقت معها من وقت لآخر أو حتى ضمّ طفل آخر إليها. إنّه الخطر ذاته، أن نموت مرّة أو مرّتين. حسنا، لا داعي للذعر، لن أرسلك مرة أخرى، فقط هذه المرة”.

“هل تعرفين بأمر مخبأ الأسلحة؟”

“وهل تظنّ أنّني عمياء وصمّاء؟”

“ظننّا أنك لم تشعري بأي شيء”.

رقدنا في السرير. استمعنا بصمت لما كان يحدث، سيارات عسكرية زحفت على الطريق من بيت لحم. بنى الصينيون مستودعات ضخمة للأسلحة والذخيرة من حول جميع الكنائس المخصصة للمسيحية. هناك وفي المدينة القديمة. لم يقصفها الأمريكيون وحلفاؤهم. نحن أيضا حظينا بحماية المقدسات. تم إجلاء سكان حيفا، على سبيل المثال، قبل عام من محيط الميناء والمناطق الصناعية. القنابل النووية التكتيكية الصغيرة والخالية من الأشعة الميناء دمّرت مرتين الميناء والمطار، وبناها الصينيون من جديد مرّتين. كانوا فعلاً مثل النمل. عمليات القصف الأولى أجّلت إبادة العرب شمال البلاد، لأنهم لم يمتلكوا القوى العاملة الكافية لهذا الإعمار المجدد. هذا، على أي حال ، ما رواه الضابط لأخي. كان هناك شيء ما في كلّ الكلام الذي قاله أخي لنا ظهرًا. رغم كلّ أحاسيس الثورة التي شعرتُ بها وأنا أسمع الكلام يخرج من فمه، إلاّ أنّه كان فيه شيء من الحقيقة. الحقيقة بأنّنا لن نواجه مشكلة أقليات في البلاد، عند تحريرها. لا شك، كلّنا حيوانات مفترسة.

عندما استيقظنا كان الظلام قد حلّ. استيقظنا على صوت خطى وصرير القفل في الباب. دخل أخي. أحضر حزمة مربوطة في كيس. سيأتي يوم يُقبض عليه متلبسًا في هذه الأعمال المشبوهة. استيقظت زوجتي أيضا وجلست على السرير. وقف عند المدخل للحظة.

“لقد جلبتُ لك هدية”، قال.

الآن فقط رأيت أن الحزمة ثقيلة للغاية. قفزت زوجتي من السرير وبيدين مرتجفتين بدأت تفكّ الحبل، وتشدّ الكيس وتفتحه. على الأرض سقطت فتاة عمرها أربع سنوات، فاتحة الشعر، متسخة، نحيفة، خائفة. هجمت زوجتي عليها كمن عثر على غنيمة. لم تنطق الفتاة بكلمة. نظرت إلينا في دهشة.

لقد نجوت، فكرت في نفسي، أو أني فقدت كل شيء. رفعت زوجتي الفتاة وأوقفتها على قدميها. أغلقت ستارة التعتيم على النافذة وأشعلت النور. نظرت الطفلة إلينا بعينين كبيرتين، زرقاوين. ربما تعود إلى أيام الصليبيين.

“لمَن هذه الفتاة؟” سألتُ.

هزّ أخي كتفيه.

” ليست لأحد، أخرجتها من المنزل الذي انفجر بعد الظهر”.

كنّا الآن ثلاثة في قارب واحد.

قالت لي زوجتي: “أحضر اللحم الذي أبقيته ظهرًا بسرعة.

ركضت وأحضرت الطعام. وضعته أمام الفتاة الصغيرة.

“هل تجيدين العبرية؟” سألت.

“كيف يمكنها أن تجيد العبرية؟” اغتاظت زوجتي.

“إنها أكبر مما تبدو عليه”، تدخل أخي. “كلّهم سيان”.

“كم عمرك؟” سألت تمار.

أرتنا خمسة أصابع في يد واحدة وإصبعًا إضافيًا في اليد الأخرى.

“أنا مسيحية”، أضافت بقلق، وأخرجت صليبًا صغيرًا تدلى من رقبتها.

هززت رأسي.

قالت لها تمار: “كلي. إنه لك”.

انقضّت الفتاة على الطعام. لم أتحمل رؤية المشهد وحوّلت رأسي. عندما نظرت إليها مجددًا رأيتها تبكي. تأكل وتبكي. ودموعها الصغيرة تسيل داخل الطبق وتكوّن بحيرات متوهجة وشفافة، للحظة وجيزة، قبل أن تختلط مع الصلصة.

هل ترغبون في شيء آخر?
21
جبران خليل جبران
وردة الهاني

© פרויקט הסיפור הקצר 2024

Made with ☕ and 🚬 by Oddity

البحث:

تريد حفظ لوقت لاحق؟

اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع

Short Stories
Straight to Your Inbox

Oops, this is a personal area feature.
The personal area is only available to subscribed users. Sign up now for free to enjoy all the personal area features.