العِصيان – فصل من رواية الغوريلا

5 دقائق

العِصيان – فصل من رواية الغوريلا

5 الدقائق

لماذا يجب قراءة هذه القصّة

Remove from my favorites

عند الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبا. كانت الريح تدحرج علبة جعة منهوبة الروح في الشارع المقفر. سكون كبير يصل قوس بَابْ بْحَرْ ببرج الساعة برج ساعة 7 نوفمبر هو رمز للانقلاب الذي قام به الجنرال زين العابدين بن علي على الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر 1987 وكان ينتصب مكان الساعة تمثال للزعيم الحبيب بورقيبة. العملاقة عند تقاطع شارع محمد الخامس وشارع الحبيب بورڤيبة. العاصمة الخالية يشوش سكونَها معتوهُها الشهير؛ رجل من ظنون يطوف بالساعة طوافه الأخير، قبل أن يأخذ في إبعاد النّاس وتحذيرهم من سمّ العقارب العالية، ثم يبدأ في رجم أعدائه بالحجارة والحديد والبيوت والأشجار والغربان والتيوس. أشياء لا يراها إلا هو، يتوهّم أنه يلتقطها من القاعدة الرخامية لساعة الفولاذ المتبرّجة كعاهر في آخر سنوات النضال. نسي الناس أيام الخطف والرعب. لم يختف رجل واحد منذ سنة أو أكثر. كان الناس ينعمون بقيلولة شهر أغسطس المقدّسة. الحرارة تعدّت الخمسين درجة وشيطان منتصف النّهار يفلي عانته من بقايا لذّة هاربة.

فجأة ذبحت أصوات سيارات الإسعاف والشرطة القيلولة النائمة فهرع الجميع ببقايا نعاسهم أو ما تيبّس عليهم من منيّهم إلى شارع الشوارع. كان الحدث هناك، عند الساعة الشاهقة. أحزمة من الشرطة تسيّج المكان. رجال « التدخّل السّريع » يختفون وراء خوذاتهم الباردة، يدفعون بعصيّهم المتفرّجين الذين هطلت بهم أبواق السيارات من كل مكان. بشرٌ بلا عدد يرفعون رؤوسهم إلى قمة السّاعة القاسية. كائن صغير بحجم الإصبع، يتراءى للجميع من بعيد، يتسلّق بسرعة الصرصور الساعة أمام دهشتهم ليعلن القيامة.

    اشرأبت الأعناق نحو المتسلّق الجسور الذي انتهى إلى رأس السّاعة مُمسكا بأحد عقاربها. سحب من جيبه الخلفي قارورة. شرب ثم أفرغ ما تبقّى منها على فروة رأسه. استل حزامه الجلدي وثبّت به نفسه إلى حلقات الحديد والتفت نحو الحشود التي تكاثرت تحته مثل النّمل. حاصرتها الشّرطة المتوتّرة، ركض أعوانها في كل اتّجاه يكلّمون أجهزة اللاسلكي ويطلبون بإشارات عصبية من الرّجل العالي أن ينزل من الممنوع. بينما كان هو يغمغم بكلام تتمزّق أحشاؤه في الأجواء فلا يصل منه إلاّ فتات كبعر الأكباش. تشي حركة يده اليسرى، التي يلوّح بها يمينا وشمالا، أنه يرفض النزول. أخذت الشرطة تدفع الناس المتحلّقين مثل الخنافس حول الساعة، تحاول منع التصوير وإخراس الأصوات والهواتف المحمولة المرفوعة نحو عقارب الساعة. حركة المرور شُلّت ومحركات السيارات تنبض مثل عروق عدّاء المائة متر على خط الانطلاق.

أمرٌ خطير ما كان يحدث، فلم يجرؤ أحد على الاقتراب من الساعة منذ سنتين بعدما سقط منها أحد مشجّعي كرة القدم فرحا بفوز فريقه بكأس الجمهورية. يومها، تحوّلت مياه تلك النافورة التي تضخّ مياه الزينة تحت الساعة إلى بركة حمراء. منذ ذلك المساء أصبحت الساعة تخضع لحراسة مشدّدة، وهي التي تحتلّ موقعا خطيرا في قلب العاصمة، زيادة على ما يرويه عنها المعتوه أحيانا.

ازداد الزّحام وانتعشت الصفوف الأمامية بالسيّاح الذين تدفّقوا من الشواطئ ومن الفنادق القريبة. خفتت عصيّ أعوان الشرطة قليلا لكن توتّرهم ازداد. كانوا يركضون في كل مكان يسيّجون الأرصفة ويوسّعون من المنطقة المحظورة بينما الرّجل متمسّك بلسان العقرب في أعلى الساعة مثل وزغة.

قبل سنوات كان ينتصب في مكان هذه الساعة تمثال أخضر لبورڤيبة على حصان يرفع إحدى قدميه الأماميتين في وجوه الناظرين إلى السماء. قيل إنّه يرفعها في وجه ابن خلدون الذي زُرع تمثاله مثل الكابوس قبالته، وبطلب منه. بعد الإطاحة بحكم الراكب اقتلع التّمثال ونبتت مكانه ساعة عملاقة بجذع إسمنتي بارد، سرعان ما توالد لها صغار في كل مدينة وفي كل قرية. بينما طُوردت تماثيل الزعيم في كل أرض.

استبدلت السّاعة بأخرى سويسرية أو إنجليزية أو أمريكية، أخبار متضاربة حول جنسية الساعة الجديدة وجذعها البرونزي المزيّن على طريقة الرقش العربي. كلام بلا دليل ولا برهان عن ساعة مجهولة النسب غُرست في قلب المدينة اللاهية بأبنائها. لا أثر للزعيم الذي تمّ ترحيل تمثاله إلى “حلق الوادي” ليظل ينظر إلى البحر المرّ.

ظل الرّجل العنكبوت يتجوّل فوق المحظور مستعينا بحزامه الذي ينقله من جانب إلى آخر مثل متسلّق جبال محترف. وتحته العالم مُرْتبكا. اشتد الزحام بعد أن خرج الموظفون من مكاتبهم. مضت ساعة كاملة والشرطة تأكل عصيّها، عاجزة عن إقناع رجل السّاعة بالنّزول. في الزّحام كانت تجري أمور غربية. نشطت السّرقة ونشل الهواتف المحمولة والعقود من جيود النساء وامتدت الأيادي إلى النهود المشدوهة والعجيزات المنسيّة.

الصّعود إلى أعلى الساعة جرم كبير ومعصية لا تُغتفر وما حدث يومها مسألة تمسّ الأمن، والشرطة في مأزق. كيف يمكن أن تسيطر على الأمر والفضيحة تحدثُ أمام الجميع: أهال وأجانب والبلاد في عزّ الموسم السياحي؟

يكاد الضابط يأكل وجه شرطي مهزوم وهو يسأله للمرة الألف: “كيف وصل ولد القحبة إلى هناك؟ أين كنتم يا بهايم؟ كيف تركتموه يقترب من السّاعة ويتسلّقها أيضا؟ “

في الجانب الآخر انقضّ شرطي على سائح وانتزع منه آلة التّصوير التي صوّبها نحو السّاعة. اجتثّ الشرطي البطارية منها وأعادها له في عصبيّة محذّرا إياه من استعمالها مجدّدا. هكذا صارت المنطقة المسيّجة منطقة أمنية محظورة.

بدأت الحشود تتململ من تصرّفات أعوان الشّرطة الذين جعلوا بينهم وبين موقع الحدث مسافة كبيرة. ازداد تذمّرهم عندما شاهدوا رجل السّاعة يلوّح بيده موجّها خطابه نحو رئيس فرقة التدخّل السّريع. فهموا أنّه يطلب ماءا فقد أخذ يلوّح بالقارورة الفارغة في الهواء. جاءت قارورة الماء. صعد بها شرطي إلى أعلى السلّم الداخلي للسّاعة. رمى إليه بالحبل الذي عُلّقت به القارورة. اختطف الحبل آمرا الشرطي بالرجوع من حيث أتى بعد أن همّ بمفاوضته.

لم يُسمع شيء من حواره مع الشرطي. فقد كان الناس مشغولين بما يهذي به أحد الشبّان، صاح فيهم: « إنّهم ينقلون الأحداث في التلفزيون وصوت الرّجل مسموع. انظروا لقد وصلتني رسالة هاتفيّة قصيرة تعلن الخبر مع رقم تردّد القناة».

سحبوا هواتفهم. كانت الرّسالة قد وصلتهم جميعا في نفس الوقت. ازداد أعوان الشرطة اضطرابا وبدؤوا يبحثون بينهم كالمجانين عن شيء ما. وصلت فرقة أخرى انشغلت بالبحث في البنايات المقابلة والمجاورة عن مكان البثّ وعن الكاميرا التي تصوّر الحدث.

هرول البعض إلى بيوتهم بينما ظل الجمهور يتكاثر حتى ضاقت به أرصفة الشوارع وفاضت به الطّرق.

هل ترغبون في شيء آخر?
21
جبران خليل جبران
وردة الهاني

© פרויקט הסיפור הקצר 2025

Made with ☕ and 🚬 by Oddity

البحث:

تريد حفظ لوقت لاحق؟

اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع

Short Stories
Straight to Your Inbox

Oops, this is a personal area feature.
The personal area is only available to subscribed users. Sign up now for free to enjoy all the personal area features.