اقرؤوا في:
نبتُّ فجأةً مثلَ شجرة. في إحدى المرّات، حلمتُ، وأنا في الخامسة من عمري، حلمًا. عادَني الحلم مرّة أخرى. تلك الليلة، نمتُ مدّة عشر دقائق. كانَ صعبًا. لم يكن الدّواء الذي وصفه لي الطبيب ناجعًا.
المهدئات لم يكن لها مفعول عليّ في الماضي، ولن يكون لها مفعول عليّ هذه المرة. لم أتناولها في الليلة الماضية. كنت قد تعاطيتُها من قبل لأخفّف من حدّة خوفي. في الليلة السابقة، مرّ شيء في خاطري وقد أقنعني أنّ المهدّئات لا تناسبني، كان ذهني يشبه طريقًا ضيّقة مليئة بالحفريات في بلدة قديمة. كان لديّ كابوس. حلمتُ أنّني طفلٌ عادَ إلى غزّة، على رأس أحد أعلى أبراج المدينة. ركبتُ جملا فوق جملٍ أصغر، بينما عاصفةٌ قدمَت من جهة البحر. فجأةً وقعتُ وابتلعني البحر. استيقظتُ من النوم وأنا أرجف. منذ أن كدتُ أغرق في غزة وأنا في التاسعة من عمري، وأنا أخشى البحر. لماذا يلاحقني البحر؟ استيقظتُ وأنا أتساءل لماذا الآن!
بعد هذا الكابوس، لم أعد إلى النوم. عدتُ لأضع خدّي على الوسادة، بلغتُ المنضدة، وحدّقتُ في شاشة هاتفي، أقلّب الصفحات، من تطبيق إلى تطبيق، بلا غاية. المئات يتواجدون على النت. كلهم تقريبا من غزة. الساعة الآن الرابعة في غزة، وأنا هنا، في السويد. بفارق ساعة واحدة بيننا، ولكن هذه الساعة زمنٌ بين عالمين مختلفين. عثرتُ على رسالة واحدة غير مقروءة. كانت من أخي يسأل عن صحتي. سحبتُ ساقي إلى صدري، ثم بلغتُ المنضدة، ووضعت الهاتف على الطاولة برفق، ثم مددت ساقي الأخرى نحو الخزانة. كان منزلي شبيهًا بزنزانة صغيرة جميلة.
استوديو صغير يتوسطه حيّز ضيق ومزدحم. على اليمين كان المطبخ الصغير، وعلى اليسار السرير المصمم كأريكة، وفي الأمام النافذة ومنضدة ومكتبة صغيرة. نمت، درست، كتبت، أكلت وقرأت على نفس الكرسي الأريكة، والذي صادف أن يكون سريري أيضًا. لحسن الحظ، كان باب الحمام يبعد مسافة متر ونصف عن سريري الأريكة. أخبرني صديق زارني أن هذا الاستوديو الصغير أفضل من الفيلا في بلدان عديدة في العالم.
فتحت عينيّ وفجأة أغلقتهما من جديد. كانت قد تورّمتا بعد ليلة من الكوابيس، كانت قد سبقتها أربع ساعات من القراءة والكتابة. يصعب على العينين أن تنفتحا دفعة واحدة بعد كابوس مُرعبٍ أو ليلة متأخرة جميلة.
“هل علي أن أذهب إلى العمل؟” فكّرت بينما عيناي مغلقتان. لم أستطع تحديد إن كنت سأذهب أم لا. كانت السواعد والأوجه لا تزال تدور في رأسي. قلت لنفسي: “سأبقى هنا بين جدران الشقة الأربعة”. فتحت عينيّ مرة أخرى. هذه المرة، لم أنظر إلى السقف الأبيض ولكنني عدت باتجاه النافذة. كانت بي رغبة في أن أرى السماء.
هل من شمس اليوم؟ هل ستزورنا اليوم؟ سألتُ سانحًا لنَفسي سماع صَوتي.
لم نر الشمس طيلةَ أسبوعين. في هذه المدينة الشمالية، نادراً ما تأتي الشمس بعد آب. تشرق وتلقي بنورها قادمة بنسيم بارد وطقس قارس يذكر الناس بوجوده وحسب. فجأة، اتسعت عيناي. “إنها الشمس”، هذه المرة كان صوتي أعلى.
كان من الممكن أن يكون النهار جميلا. سحبت ساقي، أنزلتهما ووقفت على سريري. نظرت إلى المنضدة ووجدت بعض الكتب التي كان علي أن أعيدها إلى المكتبة. كانت لدي عادة سيئة في استعارة العديد من الكتب دفعة واحدة، بعد أن اشتري مجموعة جديدة من الكتب. ينتهي بي الأمر إلى قراءة نصف ما أشتريه ونصف ما أستعيره. علاقتي مع الكتب عزيزة. الكتب هي عائلتي وأصدقائي ورفيقات روحي. عندما يفقد الناس معنى الأسرة يتحولون إلى أشياء جديدة، أحيانًا إلى مخدرات وجريمة، وأحيانًا إلى أشياء نبيلة مثل العمل الخيري والتطوع.
التفتُ جهةَ الكتب. أمكنني التحدث إليها والتعلم منها. لم تشتك هي قط وأنا لم أتذمر. ذات مرة قال لويس بورخيس أن جميع الاختراعات البشرية هي امتداد للحواس. المجهر امتدادٌ لحاسة البصر. الهاتف امتدادٌ لحاسة السمع، المحراث ٌامتدادٌ للأسلحة والحركة. ومع ذلك، فإن الكتاب امتدادٌ لشيء غير مرئي وغير مسموع وغير ملموس. إنه امتداد للذاكرة والخيال.
لذلك، كان علي إرجاع هذه الكتب. أنهضت نفسي وأنا أنظر إلى علبة السجائر. تذكرت أنني لم أدخن طيلة يومين. اليوم قد يكون اليوم موعد استئناف عادة التدخين مرة أو مرتين. قمت بإعداد ماكينة القهوة السويدية– كانوا يطلقون عليها اسم bryggkaffe، وقمت بتشغيلها وتحولت يمينا نحو الحمام. مشيت على نحو غريب ، مشية جانبية تقريبا دافعا ساقي اليمنى أمامي كما لو كنت أختبر لوحًا خشبيًا مرتخيًا. كنت أرغب في الاستحمام، لأستمد طاقة على الرغم من علمي بأن الاستحمام الساخن سيجعل النعاس صديقي مرة أخرى. نظرت إلى المرآة. أمكنني أن أرى نفسي بشكل ضبابيّ، وجهٌ ملتحٍ بعينين متورمتين. قلت: “مزيد من الشعر الرماديّ”.
حالما غادرت الحمام، حولت سرير الأريكة أريكة فقط، ودفته إلى الحائط وأحدثت مساحة أكبر في الفيلا الصغيرة. فتحت النافذة ببطء، وأحدثت شقًا لتكوين عمود هواء. نكهة القهوة كانت تملأ الغرفة. بدأ ذهني يعمل مرة أخرى. القهوة تذكرني دائمًا باليمن. كانت اليمن أهم منتج ومصدر للبن. حتى “موكا”، ماكينة القهوة الإيطالية تحمل اسم المخا، الميناء اليمنيّ حيث كانت القهوة تُصدَّر منه. منذ أن اكتشفت ذلك، أصبحت قصتي المفضلة التي أرويها لأصدقائي الأوروبيين كلما رأيت موكا. أشعر بالفخر وأنا أحدّثهم عنها، كما لو كنت أصفع الاستعمار صفعة صغيرة على وجهه، أصحح شيئًا من التاريخ.
إنها التاسعة. علي أن أذهب، لكنني تذكرت أنه علي التخلص من القمامة. ثنيت كيس القمامة، وانتعلت حذائي وفتحت باب الزنزانة أو الاستوديو. لفح وجهي نسيم يابس. نشّطني. بعد ما يقرب خمس عشرة درجةً، كنت في الساحة خارج المبنى. في طريقي إلى الخارج ، رأيت ساعي البريد يرتدي زيّه الأخضر. “غود مورغون”، قلت. صباح الخير بالسويدية. أجاب، “غود مورغون”.
شرع في توزيع البريد في صناديق البريد الأربعة والعشرين. لا شيء ينتظرني في الأفق. لم أكن أتوقع أي شيء. فجأةً، أخرج بوسطة مختلفة، بوسطة سرية زجّها في صندوقي. توقفت وعدت بساق واحدة إلى الوراء، وقفت خلفه وابتسامة على وجهي. بمجرد أن غادر، فتحت صندوقي. أخذت الورقة وصعدت وحدّقتُ فيها. غريب. كانت ورقة تبلغني أنني تلقيت رسالة مهمة علي استلامها من مكتب البريد. وأكدوا أنه يجب عليّ الحصول على بطاقة هوية صالحة. كان ذلك غريبا. لم أكن أتوقع شيئًا. كانت نقطة مكتب البريد قريبة من منزلي، تبعد مسافة 10 دقائق فقط سيرا على الأقدام. سهّل البريد السويديّ الحياة من خلال إرسال واستقبال الرسائل البريديّة والبوسطة في الأكشاك ومحالّ التبغ. قررت الذهاب واستلامها في طريقي إلى المكتبة.
وضعت الحقيبة المليئة بالكتب وجهاز الكمبيوتر المحمول على ظهري. قبل أن أوصد الباب، غيرت رأيي. قررت ترك الحقيبة، أستلم ما في البريد والقيام ببعض المشتريات والعودة إلى المنزل ثم الذهاب إلى المكتبة. في طريقي إلى مكتب البريد ساورني إحساس بالقلق. من يكون المرسل؟ هل كانت هدية؟ مِن مَن؟ صديق؟ حبيبة؟ العديد من الأسئلة جعلتني مشوشًا.
بدأت الشمس تستبد بالطقس، وتغيرت درجة الحرارة. كانت رائحة المطر الليلة الماضية تملأ أنفي. كان ثمة عدد قليل من الغربان وطيور أخرى كثيرة. بدأت الغربان تتبعني ما جعلني أشعر بنبض صدغيّ نبضًا ثابتا. الغربان ليست مؤشرًا جيدًا. نشأت على معرفة أن الغربان فأل شؤم أينما كانت. فجأة، سقطت ورقة رطبة صغيرة على ورقة البوسطة التي كنت أحملها. كان كل شيء صامتًا حولي، وكانت الورقة ملتصقة بالورقة ، لكنها تتحرك كما لو كانت ترقص في حركة لولبية. ابتسمت. كنت أمام الموظف.
قلت مرحبا بالسويدية. سلمته الورقة ورخصتي القيادة للحصول على بطاقة هوية. كان صوت الماكينات عاليًا.
“تيك تيك، بيب بيب” قام بمسح الباركود الخاص بمغلف كبير. “وقع هنا من فضلك واكتب اسمك”. فعلت. كل ما أحتاجه هو المغلف. الفضول يقتلني. “ها هو”.
إنه معي الآن. هل أذهب إلى محل البقالة أم أفتحه الآن. أعدت هويتي إلى محفظتي، ثم أعدت محفظتي إلى جيبي الأيمن. أوحى المغلف بأنه من هيئة الهجرة في السويد. كنت قد تقدمت بطلب للجنسية الشهر الماضي. قد يحتاجون إلى المزيد من الوثائق. هم بحاجة الى مزيد من الأوراق، بالتأكيد. ما أتعس حظي. قيل لي أنه يمكن للمرء الانتظار لمدة عام ليحصل على قرار، لكنني كنت بحاجة إلى شيء لا يجعلني “بلا جنسيّة”.
فتحت المغلف ووجدت وثيقة سفري الفلسطينية إلى جانب أوراق أخرى. خامرني هدوء وسكينة إلى حد ما، لكنني كنت واثقًا من أن الموظف بالداخل كان يسمع نبضي ويشعر بأنفاسي المعذّبة. على بعد مترين، أعدت جواز السفر إلى جيبي وسحبت الورقة من المغلف لقراءتها. لعلها رسالة تفسّر ما يحتاجون إليه.
فجأة تغير كل شيء. كانت عيناي مفتوحتين على آخرهما. كان فمي منفرجًا وأصبح ضباب النفس الحار قبالة وجهي أشدّ كثافة. ابتسمت. كانت ابتسامة كبيرة. إذا رآني أحدهم وأنا أحدّق في الورقة، فإنّه سينتظر ليرى ثمرة تلك الابتسامة وسبب تحديقي في تلك الورقة. كنت ما زلت أحدق فيها، فمي مفتوح وأفكاري ثقيلة.
إنها هنا مع العاصفة. مثل رقصة غريبة آتية من بعيد. صفحة عاجية تحمل شعار المملكة السويدية. الأصفر والأزرق والعقيق ألوان تزين الوثيقة. مكتوبة تُنبِئُني بواقعي الجديد. كانت بداية شيء ما. كنت أعرف أنّ بدايات أخرى كثيرة ستكون، لها نهايات أخرى كثيرة. لكن ها هي بدايتي الجديدة. كانت هناك بداية “لهم” و “لنا”. “لي” و “لهم”. لا يتناسب لون بشرتي واسمي مع جواز السفر هذا: كانت تلك أصعب بداية. ثمة لحظات تصطدم فيها السعادة والحزن بعنف، مدفوعةً برياح مجنونة تهبّ من السهوب الروسية. تلك كانت لحظة من هذه اللحظات.
كيف بدأت رحلة الطفل التاسع هرباً من الموت والحياة؟
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع