اقرؤوا في:
رحلة مع الكشّافة
عندما كنتُ في الصفّ السادس خرجت إلى رحلة مع الكشافة. في كيبوتس جينيجار. في مرج ابن عامر. مخيم لثلاثة أيام. رائحة احتراق في الشعر وبطاطا وذُرة معلّبة وانضباط في شرب الماء. كان هذا مخيّمي الأول. شمل المبيتَ وكلّ شيء. وصلنا عند الظهيرة بملابس مجعّدة وربْطات الكشافة المُهمَلة وشعور مشبوكة مليئة بالعُقد من أثر ريح الصباح التي هبّت داخل الحافلة من النوافذ المفتوحة على مصاريعها، وبحناجر مبحوحة من الغناء المدوّي طيلة الطريق إلى موقع المخيّم، ركّبنا الأزرار على البطانيات العسكرية ونصبنا الخيام مُشرئبّة وجميلة، وبهتافات الحرب، هتفنا مُنشدينَ إلى النبع جاء الجدي، جاء الجدي الصغير، وخرجنا إلى مهمّات ميدانية. وفي الخامسة والنصف، عندما مالت الشمس إلى الغروب، أوقدنا تحت قِدرٍ كبير فيه زيت لقلي شرائح البطاطا، وملأنا المطرات المكسوّة بالقماش الكتّانيّ كاكيّ اللون، بالماء إلى شفّتها من المَشرَب الصدئ لأن ذروة البرنامج الحافِل كانت لا تزال أمامنا. تدريبات ميدانية في الليل. وهذا يعني الزحف على الركبتين المشروختين من خلال تخويفنا وترويعنا في ظلام دامس بين الصخور والشجيرات الشائكة. كنّا هادئين ومتحفّزين عندما بدأ الليل يُسدل ستاره بطبشورة داكنة على صفحة السماء الصافية، وتحوّلت غيوم ريشية من البرتقالي إلى الوردي الباهت إلى أزرق سماوي خفيف إلى أرجواني وفي النهاية إلى أسود داكن.
وبين الأزرق السماوي والأرجواني، وقبيل الأسود شديد الدّكنة، غرقت في كآبة بداية المساء. الكآبة التي ورثتها عن أمي التي لا تزال تقول إنّني أكره المساءات التي صارت طويلة بينما النهار قصير جدا. وطارت أفكاري إلى الكاكاو الذي أخذ يعقد في القدر وصار بنّيا خالِصًا بنكهة الشوكولاتة يكاد يكون صلبا في هذه الأثناء تمامًا، عبر الوادي والتلال إلى الندى والمطر في الأعالي حيث تتلألأ الأضواء، تنطفئ وتُضيء، إلى قرص العجّة وحوافّه الذهبية الضّاربة إلى السّمرة الغاطسة في بقعة القشطة، إلى وجه أمي المحمرّ من القليِ وإلى أبي مع مَحرَمة المُربّعات والترنزيستور الصغير، وهو يرفع صوته بزرّ يُديره إلى أقصى اليمين نحو أخبار الساعة السابعة مساء. في موقع المخيّم أنيرَت الآن مصابيح الكيروسين، والتي كانت مصابيح حقلٍ في السابق، وبدت كمشاعل مع غطاء زُجاجي ومقبض معدني. دلّل المرشدون أنفسهم بفناجين القهوة السوداء ورائحة حلوة محروقة تسللت عبر غيمة شرائح البطاطا. مظهر أبي الجانبيّ مع فنجانه وقهوته الآن ولاحقا بدأ يتراقص أمام عيني كأطياف فتيات جيمس بوند. وقلبي، ابن الصف السادس، أجرى حسابات التفجّر تفجرًا كونيا هائلا.
وعرفت. ليس هناك سوى طريق واحدة. معبّدة وآمنة. إنّه البُكاء. بشكلٍ فظيع. وانفجرت. هكذا بصرخة طويلة. كابن آوى في الحقل. طويلة طويلة. حزينة حزينة. تمزّق قلب كل مرشد ومرشدة، وهم أنفسهم، ذوو سطوة وواثقون، كانوا في الصف الحادي عشر وليس أكبر. والمرشدة الأطول، مع القلنسوة العسكرية الأكثر إتقانا، حنَت عليّ طويلة مُنثنيَة كلولب لأني جلست مطويّة الرجلين عند باب الخيمة، التي طارت حواشي صوفها بشمم في ريح المساء، وداعبت رأسي. مرة بعد مرة. بأدب ولكن بنزَق. تُحاول أن تُسكت صرخة ابن آوى الصاعقة التي تعكّر فرحتي. لكن عبثًا. على عكس ذلك. مداعباتها المقتصدة عزّزت قوّتي وشدّت أوتار صوتي. ووضعت الكلام في فمي. أريد البيت. الآن. أريد أمي وأبي. بابببببا صرختُ قُبالة سماء الليل الآخذة في الاسوداد، كعشرة ثعالب تصرخ دفعة واحدة. وسمعتُ من ورائي وأمامي وعن جانبيْ أصوات ضحكات مرحة لكن فظّة لجموع من بنات آوى الصغيرة في الصف السادس لا تشتاق للبيت أبدا، لكن لم يهمّني الأمر. جلست هناك متحصّنة عند باب خيمتي الاحتجاج الصوفية ويداي على ركبتيّ أحرّكْهُما من جهة لجهة، من تحت لفوق لتحت. وبشفتين مزمومتين. انتظرت أن أرى. انتظرتُ ولكني عرفت أن الأمر انتهى. صرخة إبن آوى التي ندّت عني عبرت الوادي وتدحرج صداها ليتسلّق الجبال.
وبعد ساعة من الانتظار العنيد ظهرَت لي. سيارتي الإنقاذ. تشق طريقها عبر الطريق التُرابية، مُحبّة ومتعثّرة. تعفّر الغُبار ناحيتي. سوسيتا أبي. حدّقت في أضواء السوسيتا، توسع البؤبؤ في عينيْ، بينما دنت الأضواء مني في الظلمة إلى أن فقدت تركيزها وصارَت مُبهرة مُعمية كما أضواء المركبة الفضائية في لقاءات من النوع الثالث. شلال الضوء الأبيض القوي الحارق أيقظ المرشدة اللولبيّة التي فوّتت التدريبات الليلية بسببي وراودها النوم غَضْبى إلى جانبي. قفزت دفعةً واحدةً منتصبةً، سوّت ثنايا قميصها المرصّع بالبُقع، وتمتمت بصوت جاد في محاولة لمحو أثر نومها العميق، أوه، وأخيرا. لماذا استغرقه كل هذا الوقت؟ لقد اتصلنا من ساعات. وحدجتها بنظرة استعلائية قاسية وسحبت من الخيمة، التي لم تطِر حواشيها الآن لأن الرياح كانت هادئة، الحزام والمطرة وفانوس الجيب وحقيبة الظهر، ومشيت بثقة على بساط من الشوك والأحجار الصغيرة وفتحت باب السوسيتا الذي صرّ على محاور الحديد الصدئة، على آخره، ووثبت إلى الداخل كالشرطييْن ستارسكي وهاتش. ولا أذكر مَن منهما كان يثب هكذا على جانبه ويتدحرج بشكل مُحكم، وارتميتُ على المقعد البلاستيكي وتنشّقت ملء رئتي رائحة دخان دوبِك عميقًا عميقًا ونظرت إلى الصورة الجانبيّة المعتمة إلى غُرّة والدي المصفّفة على طريقة مُقاتلي البلماح، المنحوتة في الحجر، ومددت رجليَّ الظريفتين المُهملتيْن إلى التابلوه في وضعية استرخاء تام وغطست في المقعد.
أنت متاكّدة من أنك تُريدين الذهاب إلى البيت يا “توتسكة”. هذا كل ما قاله. لم أجِبْه إنما لوّحت بيدي بحركة رئاسيّة رحبة إلى المُرشدة اللولبية ومددت يدي إلى الراديو وانحنيت وأدرته. فقط، بعد أن استدرنا الى الخلف على الفور، وكانت مؤخّرة السوسيتا باتجاه المخيّم ومقدمتها ناحية التلة، قلتُ يلّا. إلى البيت. رماني أبي بنظرة قصيرة، قصيرة جدا، ومدّ يده الحرّة نحوي ومرّرها مُداعبًا كعادته مداعبة خفيفة، وهو الذي داعب عشرات القِطط، من عظمة خدّي حتى ذقني، وقال يلّاس. إلى البيت.
حلاوة
أحبّ أبي الحلاوة كثيرا. كانت الحلاوة خُلاصة المذاق الحلو في نظره. هذا الصمغ على شكل خيوط يذوب على اللسان بينما يلتصق قسم منه بالأسنان كدبق قويّ، وإذا وُجد ثقب في السن فالويل ثم الويل من الحلاوة، جهنّم حمراء. إلا إن أبي كان مهووسا بالحلاوة. مع اللوز ومع الفستق أو مدهونة بالشوكولاطة. وتلك التي كانت ملفوفة بورق الفضّة البسيط مع طبقة من الشوكولاطة الاصطناعية، تلك التي سمّيت لسبب ما بـ”تسمكاو” أحبّها بشكل خاص. وأمي، أيضا، أحبّت الحلاوة. أحبّتها كثيرا. سلبت الحلاوة عقلها. ودائمًا ما كانت تشرح وتسهب وهي تحكي كيف كان أبي يُحضر، قبل أن أولد، الحلاوة بصفائح مدوّرة تُفتح بمفتاح الصفائح. براميل كتلك المخصَّصة لزيت الزيتون. كانت تزيد من سُرعة رفرفة رموشها وتصيرُ نغمة صوتها أبطأ وممدودة وحالمة بعض الشيء، وكان يُصيبها شيء ما أشبه بنشوة جنسية. الحلاوة التي كان يُحضرها أبي. في الصفائح. كان هذا قبل أن أولدَ بزمن. ولم أحبّ حديثها هذا عن الحلاوة في صفائح الزيت. كان الأمر يُخيفني ويبعث البروق في عامودي الفقري ويُطلع الغضب. ما حكايتها مع الحلاوة في الصفائح كأنها عجيبة من العجائب. كانت تأكل حلاوتها مع الخبز بالقشطة. هكذا كانت تسمي ذلك. وليس الخبز مع القشطة. بـ بالقِشطة. كأن القشطة تذوب أو تُحقن إلى داخل الخبز، لتَكون شيئًا غريبًا معدًا للكبار، بالقِشطة. أخ. حلاوة مع خبز بالقشطة أو خبز السبت بالقشطة كما كانت تقول. إنها من أطايب الطعام. ليس هناك أجود منها. مُتعة حقيقية.
بالأساس حلاوة من البلدة التحتا. وهي الألذّ في نظرها ونظر أبي. حلاوة من البلدة التحتا في حيفا. ومرة في كل شهريْن أو ثلاثة، أو في كلّ مرة لم يعُد فيها أبي من العمل سيء المزاج كشاؤول الملك، وهو أمرٌ نادرًا ما حصل لأنه كان يعود كل يوم من العمل غاضبا حانقا كشاؤول الملك، كنّا ننسلّ إلى السوسيتا بشكل تلقائي تمامًا ونسافر في أسفل المنحدر لنتوقّف عند محلّ الفطائر في الشارع الرئيسي في البلدة التحتا ونركن السيّارة بشكل متهوّر في واجهة المحلّ، هناك في الداخل كانت مخبأة كل كنوز حلوى راحة الحلقوم الشفافة مثل أحجار البلور، وأنواع المربّى المسطّرة بألف لون برّاق بين الوردي والأصفر، والسكاكر المحشوة باللوز بألوان الأزرق والأبيض والوردي في أكياس هائلة من الخيش. والحلاوة طبعا. من كل الأصناف.
حلاوة باللوز والفستق مع طبقة شوكولاطة ناعمة تماما وسُمسمية بدون أي شيء داخلها، والحلاوة التي لا نظير لها. ملكة كل الحلاوات. تلك الأثيرة عندي، أيضا. المُخطَّطة بثلاثة ألوان عرضية. من فوق شوكولاطة، حلاوة مغيظة بلون غير واضح بين العاج والقهوة في الوسط، وحلوى النوغة الطريّة الدّاكنة تذوب من تحت. في الواقع أحببت فقط القسم العلوي المطلي بالشوكولاطة والنوغة من تحت، أما الحلاوة في الوسط كانت الضريبة التي عليّ أن أدفعها على اشتهائي ما هو فوق وتحت. وفي كلّ مرة كنّا نتدحرج فيها في منحدر الجبل كنتُ أصلّي أن يأخذوا أيضا قطعة من حلاوة الثلاثة ألوان. ولم يكن ُممكنا أن أعرف في هذه الرحلات الجامحة النزويّة إذا كانوا سيأخذون أو لا، لكن دائما ما كنّا نعود إلى البيت في سيارة محمّلة برُزم صغيرة مربوطة بخيوط، وأوراق فوق أوراق مشمعة مربّعة دهنية. وكلّما صعدنا في طلعة الجبل، كانت البقع الدهنية تتسع بدوائرها الواحدة تلو الأخرى وكنّا نصمت طيلة الطريق. كل منّا يحلم بحلاوته.
أبي كان البادئ الأول. البادئ الوحيد تقريبا. بالسكين. المسنونة. يفتح الرزم ويقطع إلى مربّعات فوق الشايش. أحبّ أبي المربّعات جدا. كان مهندسًا. حتى البطيخة كان يُربّعها. يقصّ كل الدائرة من حولها ويترك اللبّ مربّعا. يقصّ كل بطيخة في كل صيف. كانت أمي تقول له، المجنون وحده يربّع البطيخة، وأنت مجنون حقيقي لأنك تربّع البطّيخة، أي شخص طبيعي يربّع البطيخة، بيد أنها لم تكن تتدخّل في مسألة الحلاوة. في الحلاوة كانت تصمت وتنتظر. أن يُناولها. أن يناولها مربّعها. وآخر. كأننا في سباق تتابع. وراء ظهره. هكذا كانت تقف مع قطعتها من الحلاوة بالقشطة. وراءه. خبز بالقشطة يعقبه مربّع الحلاوة. وهي تطلي وتسوّي بالسكين طبقة أخرى من خيوط الحلاوة الدقيقة وتقضم. مَن يسوّي الحلاوة هكذا مع طبقة من الخيوط الدقيقة. هي، أيضا، مجنونة. لكني كنتُ أصمت وأنتظر حصّتي. كما في سباق التتابع أن تنفتح في النهاية حلاوة الثلاثة ألوان مع الشوكولاطة من فوق والنوغة من تحت والحلاوة المغيظة، موكا رمادية بطعم القش في الوسط. هذه كانت تُفتح دائما في النهاية.
في الأيام القليلة في السنة لاحتفالية البلدة التحتا لم نكن نجلس قط حول طاولة وجبة العشاء. أيام البلدة التحتا هي الوحيدة خلال السنة التي كانت بدون نظام معيّن أو طريقة وبدون عجّة وسلطة. أيام بدون وجبة عشاء. لأن شهوة الحلاوة كانت تكسر كل القواعد وتُفجّر النظام إلى شظايا، وتوقع الأسوار والنُظم، وتحطّم نظام الإطعام الصارم الذي تعتمده أمي. حلاوة الثلاثة ألوان كانت الذروة، ذروة الذُرى كلّها. نشوة الأحاسيس كلّها في عائلتنا. لأنه في مرحلة الثلاثة ألوان كان من المسموح التحرر والاقتراب من الشايش. كنا نحتشد. كلٌّ وسكّينه. ونقتطع. بصمت. بسرعة. وإلى الفم وقوفا. نرمي إلى حلوقنا نتفنّن ونرميها مباشرة إلى أفواهنا. سبائك الذهب المربّعة المخطّطة عرضيًا مع الشكل المتغيّر، طريّ وقاسٍ، مُنداحٌ يلسَعُ دبِق وناعم، هكذا إلى حلوقنا بسرعة، الثلاثة ألوان فقط، بدون خبز بدون قشطة بدون أي شيء.
المرّة الأخيرة
في المرة الأخيرة التي التقيت فيها أبي تقاسمنا كعكة جبنة مفتوتة. كان ذلك في مقهى صغير فيه كراسٍ معدنية في مركز الكرمل. كانت الكراسي المعدنية في حينه ذروة الموضة ورأس حربة التكنولوجيا. آخر صيحة في عالم التصميم. هكذا، أيضا، كعكة الجبنة المفتوتة. ذروة الموضة والكلمة الأخيرة في مجال الكونديتوريا. كان ذلك في أواسط الثمانينيات. لم نجلس قبلها أنا وأبي في مقهى قط. لا في مركز الكرمل ولا في أي مكان آخر. كان غريبا جدا أن أجلس مع أبي في مقهى في مركز الكرمل أنا وهو فقط. كان ذلك بعد الظهر. باكرا بعد الظهر. في أول الصيف. لنَقُل، شهر حزيران. عندما كانت الشمس وهّاجة دون أن تبهر النظر. حامية لكنها لا تحرق. بالتحديد في مركز الكرمل هناك دائما نسيم عليل يرفرف بعد الظهر ويُحرّك بخفّة أغصان الصنوبر الإبريّ. على الكرمل ثمّة وفرة في شجر الصنوبر الإبريّ. تتساقط إبره الصنوبرية وتتدحرج على ممرات المُشاة وتتكدّس في أكوام صغيرة تتخذ شكل القنافذ. وهذا أيضا حال أكواز الصنوبر ثمرة أشجار الصنوبر، ثمرة الشجر الإبريّ التي يحبّ الأولاد في حيفا جدا تكسير رأسها الصلب بحجر أو بصخرة وعضّ اللحاء الطريّ العاجي الدهني فيها. هكذا تتجمّع الأكواز في أكوام صغيرة على جوانب الشارع وفي كل مكان. حتى في شرفة المقهى الصغير المرصوفة بخطوط طولية وعرضية مستقيمة متقاطعة في مركز الكرمل. أذكر جيدًا تقاطعها الطوليّ والعرضيّ لأنني علّقت عليهما نظراتي طولا وعرضا طيلة اللقاء الأخير مع أبي.
ليس لدي أي فكرة لماذا دعاني إلى لقاء في مقهى صغير في مركز الكرمل. حضرتُ من تل أبيب بخصوص عمل. وحضر هو من البيت. كانت الأيام الأولى من تقاعده والأخيرة من حياته. لم أصل إلى حيفا كثيرا في آخر أيامه. كرهتُ حيفا في آخر أيامه وأول شبابي. كنتُ آتي ربما مرة في الشهرين. وعندما آتي كان ذلك عادةً أيام الجمعة قبل المساء، وكنتُ أغرق في غرفة صباي ومرّه، وأخرج غضبى معضوضة الشّفتين في ساعات الوجبات، لأعود وأنطوي بين ألبومات صوري وصور صديقاتي المصفرّة والمهترئة في أطرافها وخزانة الجوارير مع الملصقات المقشوطة من أيام المرحلة الثانوية، وأخرج في طريقي إلى تل أبيب في أول حافلة مع طلوع النجم الأول مع خروج السبت، أرتجّ وأرتطم بحركة رأس تعيسة مع الحافلة النازلة في منحدر الشارع الملتوي بشكل أفعوانيّ والواصل من الكرمل إلى السهل. وأقسم أني لن أزور بيت طفولتي بعد مئتي سنة، لكني أعود بعد شهرين أو نحو ذلك، وهكذا دواليك.
إلا أنني في تلك المرة كنتُ صارمة جدا. اتصلت، قلت أنني في حيفا بخصوص عمل، وقد يكون لديّ وقت للقيام بزيارة أو لا يكون، وطرقت السمّاعة بهمهمة معتادة. عاد أبي واتصل فجأة بعد مضيّ دقائق وقال عملت حساباتي. هكذا اعتادوا الكلام في الثمانينيات. كان ذلك ذروة الموضة ورأس حربة اللغة الدارجة. عملت حساباتي. هذا ما قاله. ما رأيكِ لو نلتقي على قهوة في المركز. هكذا كان الحيفاويون يسمّون مركز الكرمل. المركز. تفاجأت لكني وافقت على الفور. طبعا. لِم لا. وطيلة الطريق سألت نفسي لِماذا القهوة، لماذا في المركز، ولماذا هو معنيّ بهذا القدر بمسايرتي. واجتهدت جدًا أن أنهي أعمالي ذاك الصباح وقضيت وقتا آخر في المركز بين حوانيت تُغلق أبوابها ظهرا، فقد كانت هذه هي حال حيفا في الثمانينيات وربما اليوم، أيضا، لكن ليس لدي فكرة لأني لم أكن في حيفا وفي المركز تحديدا من زمن طويل. كان أصحاب الحوانيت يُغلقون الحوانيت بمفتاح بسيط مثل مفتاح صندوق البريد ويخلدون للنوم ليفتحوا مرة أخرى في الرابعة. منتعشين. بعد تناول قهوة وكعكة. هكذا كانت الحال. كنتُ أجلس وأنتظره قبل موعدنا بنصف ساعة. لم تكن يومها هواتف ذكية فلم يكُن لديّ ما أشغل نفسي به عندما انتظرته، ولم تكن لدي طاقة على احتمال الصحف لأني كنتُ متحفّزة فجلست وعبثت بشَعري. الأصحّ إنني فككت عُقد شعري، دوّرتُ خصلة واحدة جذريا وبعصبية.
رأيته من بعيد. يوقف سيارته. ببطء. يخرج ببطء. يقفل. كذلك ببطء. يومها لم تكن هناك صفارة إنذار “كليك كلاك” وإنما مفتاح يدور. نظر إلى واجهة مغطّاة بواقٍ من الشمس مصنوع من “السيلوفان” البرتقاليّ لحانوت مستلزمات الخياطة بجانب المقهى الصغير يسوّي قميصه المُنشّى ويمرر يدا على غُرّته المصففة على طريقة مقاتِلي البلماح . كانت غُرّة أبي كثة داكنة تخلو من الشعر الأبيض إلى يوم وافته المنيّة بعد أشهر على لقائنا. عندما اقترب من الطاولة نهضت باتجاهه أسحب الكرسي المعدني الضاجّ إلى الوراء فثبتت نحوي نظرات ناهرة من الجالسين إلى الطاولات المجاورة وقبّلته قُبلة خفيفة على الخد. هذا رغم أنه لم يكن بيني وبينه أو بيني وبين أي شخص من العائلة عُرف القبلة الخفيفة على الخد. عندمَا جلس بسرعة وبتثاقل، وهو يتموضع بصعوبة بين مقبضَي الكرسي المعدني، نظرت أخيرا نظرة مباشرة إليه. بدا مُنفعلًا. ربما غير منفعل بل متحمّس. ربما ليس متحمّسا بل متحفّز بعض الشيء. مثلي. أو ربما شيء من هذا وذاك. متحمس بعض الشيء ومتحفّز. على أي حال كان توّاقًا لتنفيذ مبادرتنا بعد الظهر في المقهى الصغير في مركز الكرمل.
ماذا تشربين. قالها حتى قبل كيف حالك وقبل كل شيء. أظنّ قهوة، قلتُ بتردّد. دائمًا ما أجيب بتردّد. واليوم، أيضا. أعتقد، لست متأكدة، ربما هذا أو ذاك، غير واضح، سنرى. وكان قد أشار إلى النادلة وطلب قهوة لكِلينا. لم تكن هذه مرحلة معقّدة. القهوة كانت سهلة للغاية. هو وأنا، أيضا، إسبرسو. هذا ما كان يشرب دائما. أو قهوة سوداء أو إسبرِسّو. هكذا دائمًا. كُنتُ أنسخ عنه هذا الأمر منذ حداثتي إلى يومنا هذا. إسبرسّو فقط. بدون حليب وبدون سكّر وبدون زيادات. هلّا طلبنا كعكة أيضا، سأل، وأجاب فورا، نطلب كعكة، أيضا. لكن واحدة لكلينا، سارعت إلى إنهاء الصفقة بالطريقة المُحبّبة عليّ. حتى هذا اليوم، أيضا. النهج الطفيليّ. صحن واحد وشوكتان. اثنان يُمسكان. بدون أي خصوصية.
ماذا ترغبين، ورفع نظره إلى النادلة دون انتظار إجابتي، ماذا عندكم؟ كان هذا حادًّا وقاطعًا في الثمانينيات في مركز الكرمل. عندنا شوكولاطة وعندنا جبنة وكعكة جافة. جافة هو أسم الدلالة على ما نسميه اليوم مخبوزات. كوراسون دنماركي ورقائق خبز ومخمّرات. ما رأيك في كعكة جبنة؟ القصد جبنة مع طبقة علويّة من الفتافيت. رطبة مستنقعيّة. وطعم المستنقع الأبيض الحلو والكثيف ومرارة الإسبرسّو الحادة لسعا لساني بشهوانية وقُلت، فلتكن جبنة. قُلت جبنة كأني لا مبالية لكن كنتُ مبالية أيّما مبالاة.
فقط عندها سأل عن أحوالي. وكان جوابي أن كل شيء على ما يُرام. وأسئلته العملية ماذا جئت أفعل بالضبط بخصوص العمل، وهل سار كلّ شيء كما توقّعت ولماذا لا أبقى للمبيت في البيت. في البيت. هكذا سمّى بيته وبيت أمي وبيتي ذات يوم في طلعة الكرمل. لماذا يقول بيت فجأة. لكني لم أنبس ببنت شفة، فقط رفعت وخفضت كتفيّ وأملتُ رأسي من جهة لجهة بحركة نافية لا ثمّ لا ولا حاجة وغير وارد. تراجع وانكمش وأخرج سيجارة من عُلبته من جيبة القميص الأمامية. وأشعلها. واستنشق ونفخ وسكتنا. ليس سكوتا مزعجًا. سكوت لطيف. لطيف بشكل مفاجئ. كان من المفتر أن يكون مزعجًا بالذات بعد “لم لا تبقين” بيد أنه كان لطيفا. بشكل مُفاجئ. حميم. قريب. أب وابنته. في مركز الكرمل. حيث الريح باردة والقهوة معطّرة وقنافذ الصنوبر تتكوّم بهدوء. كانت هذه هي المرة الأخيرة.
الأموات والأحياء بقوّة
لم أفكّر من قبل ماذا يحدث للجسد في الليل بدون روح إلى أن يتم دفنه في التراب. ماذا يفعل الجسد بين هذا وذاك، طيلة الليل حتى الصباح أو الظهر أو إلى ما بعد الظهر، وماذا تفعل الروح في هذه الأثناء. كيف يتم الفصل بين هذا وتلك. بين الجسد والروح. إلى أن بِتُّ في المشفى. بعد حادثة طُرق. وكنت منغرسة في السرير كمسمار في تابوت ولم أستطع النهوض أو التقلّب أو التحرّك أو التنفّس، بينما مات أحدهم في الغرفة المجاورة. كان ذلك يوم الجمعة ليلا. في الهزيع الأخير من الليلة ما بين الجمعة والسبت صباحا. لا أحد تحدث عن إن أحدا قد مات لكنني شعرت بذلك. حسب وتيرة وقع الخطوات بدايةً، وحسب ضجيج المعادن التي تلتقي بالمعادن ودواليب معدنية لعربات سائرة هي بالتأكيد عربات الإنعاش، والأحاديث المتقطّعة الخاطفة في الرواق. بعدها سحب الأبواب. الاصطكاكات. عاصفة هائلة من الضجيج هبّت فجأة. مرّ أحدهم. بسرعة. أحدهم اصطدم بآخر. أحاديث بالروسية. أصوات نسائية. بالعبرية. أصوات رجّالية. ممرّضات. أطبّاء. وأجهزة اتصال تصدر صفيرا. وتصفر أكثر. أجهزة. إلكترونية. رقمية.
بعدها هدأ كل شيء. ليس بسرعة. تدريجيا. صفير أقلّ، أصوات أقلّ، خطوات أقلّ، أضواء أقلّ وأقلّ خافتة حدّ الصمت المُطلق وظُلمة دامسة. وعرفت. إني أنام قرب شخص قد مات. مسافة نصف رواق لا أكثر. أحدهم توقّف عن التنفّس. روح أحدهم تنفصل الآن. تطلع كفقاعة صابون. أو فقاعة كوميكس. ولم يكن هناك مَن أسأله. لا أحد أعارني اهتمامًا، في هذه اللحظة التي مات فيها أحدهم بجواري تمامًا، مسافة نصف رواق لا أكثر. ولأني كنتُ مُصابة بغثيان من الأدوية القويّة جدا والمُدوخة جدا، أدوية تمحو الأوجاع الفظيعة، لم أكن متأكّدة تماما من إن كل هذا قد حصل. وافترضت أنني مجرّد أختلق. ربما مجرّد ممرضين وممرضات يمرون هناك في نصف الرواق في طريقهم إلى تدخين سيجارة سريعة على سلّم الطوارئ. ربّما يثرثرون عن ابتئاسهم من وردية يومي الجمعة والسبت. ربما كانوا جوعى وتوجهوا إلى خزانة في المطبخ الصغير في آخر الرواق ليروا إن تبقت هناك أقراص البسكويت أو الوفلة أو جبنة بيضاء مُقرفة لدهنها على الخبز أو أي شيء للقضم.
لكني عرفت عبر ستارة المورفين. عرفت جيدا. أحدهم قد مات. قريبا جدا. ولم يكن هناك من أحد أسأله فصمتّ. واضطجعت. اضطجعت هناك ساعات على ساعات وخفت أن أتنفّس. خفت لأن الميت قريب جدًا. وفكرت كيف مات الميت، وإلى أين تطير روحه كفقاعة كوميكس أو صابون أو بُصاق. وماذا يفعل جسده في هذه الأثناء. أو جسدها. مرميّا هناك تحت البطانية أو الشرشف إلى أن يأتوا ويأخذوه من هناك وشعرت بالبرد. وانتظرت. أن يدخلّ عليّ أحد لكن لا أحد.
في الصباح عندما جاءت الممرّضة، الأكثر قسوة والأكثر لا مُبالاة بشيء، قلت لها. أعرف. هذا ما قلته لها. أعرف أن أحدا قد مات. في الليل. ولم تقل لي أن ذلك صحيح. أو إنه غير صحيح. لم تؤكّد ولم تنفِ. كل ما قالته، اهتمي بأمورك أنتِ. وهزّت جيدا كيس السوائل، ومرّرت يدا سريعة صعودا وهبوطا على الكيس لتسريع جريان السوائل إلى داخل وريدي، وانصرفت بخفّة استعلائية بحذاء “نيو بلانس” الأبيض مع الوسائد الهوائية.
لكن كان هذا بعد سنوات طويلة من موت أبي. ربما بعد مضي خمس عشرة سنة على وفاته. عندما مات أبي لم أهتمّ. لم أهتمّ بشيء. لم أهتم على أي حال بالتفاصيل. لم أسأل. لم أسأل إلى أين أخذوه. وأين كان طيلة الليل عندما انتظرَ. عندما انتظرتُ. ولا متى وكيف نزعوا ثيابه. ولا متى غطّوه ولفّوه كشطيرة. بورق مشمّع، بكفن مخطّط أسود وأبيض، أسود وأبيض. لم اسأل البتّة ولم أشأ أن أعرف. ولم أنظر. طيلة الجنازة لم أنظر. وقفت ونظرت جانبًا. ومنذ أن مات ولم أنظر، منذئذٍ دائما ما أنظر. أفعلها عمدًا. في كل جنازة وجنازة. مع كل ميت وميت أنظر. على الحمّالة. في الكفن. في القبر. أنظر، كيف إن الجسد يقطع كل الطريق في انحناءة ساحرة وانزلاقة بطيئة عن الحمّالة إلى القبر.
وأنظر كيف يلتقيان. لحظة التقاء الجسد وقاع القبر. أقف في أقرب نقطة وأنظر. أنظر كيف يبدو بدون روح الحياة. أي عبارة مُدهشة هذه روح الحياة. الروح والحياة. الحياة والروح. وكيف تفترقان. أو بالأحرى عندما أنظر يكون ذلك بعد مرور نصف يوم على الأقل من افتراقهما. الروح والحياة. وهو ما يُخيفني ويجعلني أرتعد لكني أنظر. يُخيفني ويجعلني أرتعد لكني أصغي. حتى عندما يتناكحان بالقرب مني. عندها، أيضا، أصغي. إنه بالضبط نفس الشيء. يُخيفني ويجعلني أرتعد لكني أصغي. هذا ما أفعله. أخاف وأُصغي. أصوات أناس الواحد منهم داخل الآخر. إنه فظيع جدا. لكني بالرغم من هذا، أصغي. أوسّع أذنيّ وأصغي.
وقبل أسبوع تمشيّت في الشارع. في وقت سابق من المساء. الشمس قد غابت لكن لم تحلّ العتمة الشديدة. بين بين. بداية الربيع والخماسين. لم أكن مُسرعة كثيرا. هكذا ببطء. فجأة سمعت من أحد البيوت. بدايةً هي تموج كموجة تعلو، ومن ثمّ يضرب هو بوتيرة هادئة. أسرعت خطاي حدّ الجري وتوقفت في زاوية الشارع. أصخت السمع. بالرغم من ذلك. لأعرف كيف انتهى الأمر. كان يجب أن أعرف. النهاية. دائما. حتى يهدأ بالي. حتى أرتاح. سواء أصبتُ أم أخطأت . المهم أن أرتاح. فأصخت السمع. من مسافة أكثر أمانًا. استمرّ الجِماعُ. أكثر خفوتا لكن استمرّ. هي تموج أعلى فأعلى. كابن آوى. تصرخ. وهو لا شيء. وهي تسرع. يطّرد جؤارها. وهو يهمهم فجأة. همهمة واحدة قصيرة وانتهى. وواصلت السير. انهدّت ركبتاي مرتجفتيْن من شدّة الخوف. الخوف من الصخب العالي. صخب الموتى عندما يموتون وصخب الأحياء عندما يحيون بقوة. يرعبني ويخيفني أولئك الأموات وكذلك الأحياء بقوة.
[spacer height=”20px”]
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع