اقرؤوا في:
استيقظتُ مُرتعدا، وحيدا في غرفتي. كنتُ دبِقا وباردا من العرق، وتحتي الملاءة والحشيّة مبلّلتين بشدّة. كانت الملاءة رماديّة وملفوفةً مثل حبل. تنفّستُ كأنّي كنتُ أركض.
لم أستطع الحركة لمدّة طويلة. تمدّدتُ ببساطةٍ على ظهري باسطا ذراعيّ، ناظرا إلى السّقفِ، ومُستمعا إلى أصواتِ أناس يستيقظون في أجزاءٍ أخرى من المنزل، رنين منبّهاتٍ ورذاذ ماءٍ وفتح وغلق أبواب ووقع أقدام على الدّرج. عرفتُ متى يغادر النّاس إلى العمل. كان مدخل البهو في الأسفل يُولول ويُجرّ عندما يُفتح، وعندما يُغلق يُصدرُ صوت فرقعتين طريفا نوعا مّا. جلجلةٌ ثمّ جلجلةٌ أقوى، تلتها ضربة خفيفة أخيرة. وعندما كان الباب مفتوحا، أمكنني سماع أصوات الشّارع أيضا، حوافر أحصنة، وعربات تسليم وأُناس في الشّارع وشاحنات كبيرة وسيّارات تصرخ على الإسفلتِ.
كنتُ أحلمُ. حلمت في اللّيل، واستيقظتُ مُرتعدا في الصّباح، ولكنّي لم أستطع تذكّر الحلم، عدا عن أنّي خلاله كنتُ أركض. لم أستطع تذكّر متى بدأ الحُلم – أو الأحلام. كان ذلك منذ وقتٍ طويل. ربّما لفتراتٍ طويلة، لم تكن لديّ أحلامٌ مُطلقا. ثمّ كانت تعود كلّ ليلة. كنتُ أحاول عدم الذّهابِ إلى السّرير، لأنّي كنت سأنام مرعوبا وأستيقظ مرعوبا، وسيكون عليّ قضاء يوم آخر، بكابوس على كاهلي. الآن عُدت من شيكاغو، منتهيًا، أعيشُ مع أصدقاء في غرفة مؤثّثة متّسخة في وسط المدينة. المسرحية التي شاركت فيها توقّفت في شيكاغو. لم يكن دورا كبيرا، ولا مسرحيّة كبيرة أيضا. لعبتُ ما يشبه دور العمّ توم المثقّف، طالب كلية شاب، يعمل من أجلِ عِرقه. أعتقد بأنّ الكاتب أراد أن يُثبت أنّه ليبراليّ. ولكن، مثلما قُلتُ، توقّفت المسرحيّة، وعدت إلى نيويورك، كارها ذلك. عرفت بأنّ عليّ أن أجد وظيفة أخرى، وأقوم بجولاتٍ وأجوب الشّوارع. ولكنّي لم أفعل. لم أستطع مواجهة الأمر. كان الفصل صيفا. بدا أنّي مُرهقٌ جدّا، وكلّ يوم كرهت نفسي أكثر. التّمثيلُ عملٌ شاقٌّ، حتّى إن كنت أبيض البشرة. لستُ طويلا أو وسيما، ولا أستطيعُ الغناء أو الرّقص، ولستُ أبيض. لذلك حتّى في أفضلِ الأوقاتِ، لم أكن مطلوبا كثيرا. كانت الغرفة التي أعيش فيها مسقوفةً بكثافة، مربّعة على نحو مثاليّ، بجدرانٍ مطليّة بلون الدّم الجافّ المشوّه. تدبّر لي الغرفة الفتى اليهودي جول ويسمان. إنّها غرفة لتنام فيها، قال، أو ربّما لتموت فيها، ولكن الرّبّ وحده يعلم أنّها ليست غرفة تعيش فيها. وربّما لأنّ الغرفة شديدة البشاعة، فقد كانت تحتوي على سلسلة رائعة من تجهيزات الإضاءة: واحدة على السّقف، واحدة على الجدار الأيسر، اثنتان على الجدار الأيمن، ومصباح على الطّاولة حذو فراشي. كان الفراش مقابلا للنّافذة التي لا ينفخ من خلالها سوى الغبار. كانت غرفة مؤثثّة، وُضع داخلها أثاثٌ يكفي لتأثيث ثلاث غرفٍ في حجمها. كان هناك أريكتان، وطاولة كتابة، وفراش، وطاولة، وكرسيّ بمسندِ ظهرٍ مُستقيم، ومكتبة، وخزانة لحفظ الأوراق، ثمّ كُتبي وحقيبتي، غير موضّبة بعد، وملابسي المتّسخة مرميّة في الرّكن. كانت غرفة من النّوع الذي يهزمك. كانت تحتوي على مِدفأة أيضا، ورفّ رُخاميّ ثقيل، فوقه مرآة رماديّة كبيرة تصعب فيها رؤية أيّ شيء بوضوحٍ. ربّما يعتبر هذا جيّدا جدّا. كان إضرام النّار في المدفأة يُساوِي حياتك.
– حسنا، ليس عليك البقاء هنا لوقتٍ طويل. قال جول ليلة جئتُ إلى هنا.
هرّبني جول إلى هنا، على نحو مّا، عندما خلد الجميع إلى النّوم
– يا إلهي، آمل ألا يكون ذلك.
– سأنتقل قريبا إلى مكان واسع، قال جول، تستطيع الانتقال معي.
أشعل كلّ الأضواء.
– أتعتقد أنّ ذلك سيكون على ما يرام لبعض الوقت؟
كانت نبرة صوته اعتذارية، كما لو كان هو الذي صمّم الغرفة.
– آه طبعا، هل تعتقد أنّي سأواجه أيّ مشاكل؟
– لا أظنّ ذلك. الكراء مدفوع. لا تستطيع إخراجك.
لم أقل شيئا عن هذا.
إنّها إقامة سرّية نوعا مّا، قال جول، أنت تعلم.
– حاضر. قلتُ.
أقضي هناك منذ ثلاثة أيّام، مُسجّلا الوقت حتّى يتسنّى لي الخروج بعد أن يغادر الجميع، ثمّ أعودفي ساعة متأخرة ليلا عندما يكون الجميع قد ناموا. ولكنّي عرفت أنّ هذا لن ينجح. فقد رآني مُستأجران على الدّرج، وفاجأتني امرأة عند الخروج من المرحاض. كلّ صباح، كنت أنتظر مجيء صاحبة الشقة وقرعها الباب. لم أكن أعرف ماذا سيحدث. ربّما سيكون الأمر على ما يرام، وربّما لا. ولكنّ الانتظار كان يُوتّرني.
أصبح العرق على جسدي باردا. في الأسفل كان الرّاديو مشغّلا على سمفونيّة الإفطار. كانوا يبثّون بيتهوفن. نهضتُ وأشعلتُ سيجارة. “بيتر”، قُلتُ “لا تدعهم يخيفونك حتّى الموت. أنت رجل أيضا.” كنت أستمع إلى لودفيغ وأشاهد الدّخان يرتفع نحو السّقف المُتّسخ. وعبر طبول وأبواق لودفيغ، أصغيتُ إلى وقع أقدام على الدّرج.
قمت برحلات عديدة خلال حياتي. تسكّعت عبر سانت لويس، فريسكو، سياتل، دترويت، نيو أورليانز، واشتغلتُ تقريبا في كلّ شيء. هربتُ من أمّي عندما كان عمري ستّ عشرة سنة. لم تكن أبدا قادرة على إعالتي. لن تكون شيئا سوى فاشل، كانت تقول. عِشنا في كوخ قديم بمدينة في نيوجرسي، في الجزء المخصّص للزّنوج، نوع من المنازل يقطنها أناس ملوّنون في كامل الولايات المتّحدة. كرهتُ أمّي بسبب العيش هناك. كرهت جميع الأشخاص في حيّي.
كانوا يذهبون إلى الكنيسة ويسكرون، ويتصرّفون بلطفٍ مع البِيض. عندما يأتي صاحب المكان، كانوا يدفعون له ويتحمّلون حماقته.
أوّل مرّة لُقّبتُ فيها بالزّنجي كان عمري سبع سنوات. كانت فتاة بيضاء صغيرة بضفائر سوداء طويلة. تعوّدت أن أترك باحة المنزل الأمامية، وأذهب للتسكّع بمفردي في المدينة. كانت هذه الفتاة الصغيرة تلعبُ الكرة وحيدة. وعندما مررت بها، انزلقت الكرة من يدها وسقطت في المزراب. رميتها إليها.
– فلنلعب التقاط الكرة، قُلتُ.
لكنّها مسكت الكُرة وعبست في وجهي.
– أمّي لا تسمح لي باللّعب مع الزّنوج. أخبرتني.
لم أكن أعلم معنى الكلمة. ولكنّ بشرتي اشتعلت. أخرجتُ لها لساني.
– لا يهمني. احتفظي بكرتك القديمة لنفسك.
ثمّ واصلت السير في الشارع. صرخت في إثري “زنجي، زنجي زنجي !”
صرخت عليها بالمثل.
سألتُ أمّي ماذا يعني زنجي.
– من ناداك بهذا؟
– سمعت أحدهم يقولها.
– من؟
أحدهم فحسب.
– اذهب واغسل وجهك، قالت، أنت متّسخ كخطيئة. عشاؤك على الطّاولة.
سرت إلى غرفة الحمّام ورششت الماء على وجهي، ثمّ نشفت وجهي ويديّ في المنشفة.
تُسمّي هذا نظافة؟ صرخت أمّي. تعال إلى هنا يا ولد.
قادتني إلى الحمّام مرّة أخرى، وبدأت تغسل وجهي وعنقي بالصّابون.
– عندما تتجوّل متّسخا مثلما تفعل دائما، فإنّ الجميع سيناديك بالزّنجي الصّغير، هل تسمع؟
غسلتْ وجهي ونظرت إلى يديّ ثمّ جفّفتني.
– والآن اذهب وتناول عشاءك.
لم أقل شيئا. سرت إلى المطبخ وجلستُ إلى الطّاولة. أتذكّر أنّي رغبتُ في البكاء. جلست أمّي قبالتي.
– ماما، قلتُ. نظرت إليّ.ثمّ بدأتُ بالبكاء.
جاءت نحو جهتي من الطّاولة واحتضنتني بين ذراعيها.
– يا حبيبي لا تبكِ. عندما يلقّبك أحدهم بالزّنجي في المرّة القادمة، أخبره أنّك تُفضّل أن تكون كذلك، على أن تكون حقيرا وقذرا مثل بعض البيض.
عندما كبرت في السن، شكّلنا عصاباتٍ، أنا وصديقي. كنّا نقابل أولادا بيضا وأصدقاءهم من جهتي الأسجية المتقابلين، ثمّ نرمي الحجارة وعلب القصدير على بعضنا البعض.
كنت أعود إلى البيتِ نازفا، فتضربني أمّي وتؤنّبني ثمّ تبكي.
– يا ولد، هل تريد أن تُقتل؟ تُريدُ أن تنتهي مثل أبيك؟
كان والدي عاطلا، ولم أره قط. سُمّيتُ على اسمه: بيتر.
كنتُ دائما مورطا في مشاكل: متفقّدو الغِيابِ في المدارس، موظّفو الرّعاية الاجتماعيّة، وكلّ شخصٍ آخر في المدينة.
– لن تكون أيّ شيء سوى فاشل. قالت أمّي.
بمرور الوقت، أنهى المدرسةَ أولادٌ عرفتهم يكبرونني سنّا، وتحصّلوا على وظائف، وتزوّجوا ثمّ استقرّوا. كانوا يستقرّون، وينجبون المزيد من الرُضّع السُّودِ إلى العالم، ويدفعون نفس الإيجار لنفس الأكواخ القديمة وهكذا دواليك.
عندما كنتُ في السّادسة عشرة، هربتُ. تركتُ رسالة أخبر أمي ألاّ تقلق، وأنّي سأعود يوما مّا، وسأكون على ما يرام. ولكنّها ماتت عندما كنت في الثّانية والعشرين. عدتُ وورايتها الثرى. كان كلّ شيء مثلما كان. لم يكن بيتنا مطليّا. كانت أرضيّة الشّرفة منخفضة، والمعطف المطريّ لأحدهم محشورا في النّافذة المكسورة. عائلة أخرى انتقلت إلى هنا.
كان أثاثهم مكوّما على امتداد الجدران وأطفالهم يركضون ضاحكين في المنزل، وكان أحدهم يشوي شرائح لحم الخنزير في المطبخ. كان الولد الأكبر يُسمّر مرآةً في الحائط. أخذتني آيدا السّنة الفارطة في سيّارتها الكبيرة، ومررنا عبر بعض المدن شماليّ المدينة. مررنا ببعض المنازل المتهدّمة على اليسار. كانت الثياب المعلّقة على الحبل تطير مع الرّيح.
– هل يعيش النّاس هناك؟ سألت آيدا.
– فقط الزّنوج، قلت.
تقدّمت آيدا بالسّيّارة إلى أمام، وهي تقرع المنبّه بغضب.
هل تعلم بأنّك تتحوّل إلى مريض برُهابِ الآخرين يا بيتر؟
– حسنا، حسنا، أعرف الكثير من البِيض المتضوّرين جوعا أيضا.
– اللّعنة، بالتّأكيد هم كذلك. أعرف القليل عن الفقر أنا أيضا.
كانت آيدا تتحدّر من نوع من العائلات يعبّر عنه ب “إيرلنديّي الأكواخ”. تربّت في بوسطن. كانت امرأة جميلة جدّا تزوّجت في سنّ مبكّرة من أجل المال – الآن أستطيع السماح لنفسي بأن أدعم شبابا مثيرين- تقهقه. كان زوجها راقص باليه، ودائما وأبدا على سفرٍ. شكّت آيدا بأنّه مثليّ. لا يعني أنّي أهتمّ، قالت، طالما أنّه يدعني في حالي. عندما التقينا العام الفارط كانت هي في الثلاثين وأنا في الخامسة والعشرين. كانت بيننا علاقة جميلة عاصفة، لكنّنا صمدنا. كلّما ذهبت إلى المدينة، اتصلت بها. وكلّما تقطّعت بي السّبل للخروج من المدينة، أُعلمها. لم نسمح أبدا لعلاقتنا أن تُصبح جدّية كثيرا. ذهبتْ في طريقها، وذهبتُ في طريقي.
وفي خضمّ كلّ هذا التّجوال، تعلّمت أشياء صغيرة. ومثلما يتعلّم ملاكم كيف يتلقّى ضربة، أو راقص كيف يسقط، تعلّمتُ كيف أتأقلم. تعلّمتُ مثلا، ألاّ أكون عدوانيّا أبدا مع رجال الشّرطة. بغضّ النّظر عمّن كان على حقّ، المؤكد أنّي مُخطىء. ما يُمكن قبوله على أنّه استقلاليّة أمريكيّة جميلة وعريقة لدى البعض، قد يكون عجرفةً لا تُطاق لدي. بعد المرّات الأولى القليلة، أدركتُ أنّ عليّ أن أتحاذق، أن أمثّل الدّور الذي كان عليّ لعبه. لم يكن لديّ سوى رأسٍ واحدة، وكان من السّهلِ جدّا تهشيمها. عندما كنت أواجه شرطيّا، كنتُ أتصرّف كما لو أنّي لا أعرف شيئا. كنتُ أترك فكّي يسقط وعينيّ تتضخّمان. لم أقدّم له أيّ أجوبة متحذلقة، ولا أيّ شيء من الخراء عن حقوقي. عرفتُ أيّ أجوبة يريد وقدّمتها له. لم أدعه يشعر أبدا بأنّه ليس ملكا. لو حدث شيء شذ عن العادي، لو وقع إيقافي إثر شبهة سرقة أو جريمة قتل في الحيّ، حولت ما استطعت أن أبدو ذليلا، وأبقي على فمي مغلقا وأصلّي. تعرّضت إلى الضّرب بضع مرّات، لكنّي بقيتُ خارج السّجن، وبعيدا عن الأعمال الشاقة التي ينفذها المساجين المقيدين بسلاسل. كان ذلك بفضل الحظّ، لاحظت آيدا مرّة. “ربّما كان الأمر أفضل لك، لو كنت أقلّ حظّا. أشياء حدثت أكثر فظاعة من العمل بسلاسل. بعضها حدث لك.”
كان هناك شيء مّا في صوتها.
– على ماذا تتحدّثين؟ سألت.
– لا تفقد أعصابك، قلت ربّما.
– تقصدين أنّي جبان؟
– لم أقل هذا بيتر.
– لكنّكِ قصدتِ هذا، أليس كذلك؟
– لا، لم أقصد هذا. لم أقصد أيّ شيء. دعنا من الشِّجار.
هناك أوقاتٌ وأماكن يستعمل فيها الزّنجيّ لونه كدرع. يستطيعُ المتاجرة بالذّنب الأنجلو-ساكسوني الخفيّ ليحصل على ما يريده بهذه الطّريقة أو بعض منه. يستطيع المتاجرة بقِيمة ما يسبّبه من إزعاج، قيمته كفاكهةٍ محرّمة، يستطيع استعمالها مثل سكّين، يستطيع ليّها وبلوغ ثأره بهذه الطّريقة. عرفتُ هذه الأشياء قبل إدراكي بأنيّ عرفتُها منذ وقتٍ طويل، وفي البداية استعملتها، غير عارفٍ ما كُنتُ أفعله. ولاحقا، عندما بدأتُ أتبصّر الأمر، شعرت بالخيانة. أحسستُ بأنّي مهزوم كشخص. لم يكن لدي مكان أمكنني أن أكون فيه صريحا.
كان ذلك سنةً قبل أن أتعرّف إلى آيدا. كنتُ أمثّلُ مع شركاتٍ مسرحيّة للهواة ومسارح صغيرة، مؤدّيا أدوارا جيّدة إلى حدّ ما. كان النّاس لطفاء معي. أخبروني بأنّي موهوب. قالوا ذلك بحزنٍ، وكأنّهم كانوا يفكّرون، يا للأسف، لن يستطيع الوصول إلى أيّ شيء. وصلتُ إلى نقطة صرتُ فيها أغضب من المديح والشّفقة وبدأت أتساءل في ماذا يُفكّر النّاس عندما يصافحون يدي. قابلتُ في نيويورك مجموعة من الأشخاص الرّائعين جدّا، طيّبي المعشر وشرّيبين كبار ومتشردين. كانوا مهمّشين وأحبّوني، وتساءلت إن كان بإمكاني الوثوق بهم، إن كنتُ أقدر على الوثوق بأيّ أحدٍ بعد الآن. ليس على القمّة، حيث يستطيع كلّ العالم الرّؤية، ولكن في الأسفل حيثُ يعيش الجميع.
عليّ أن أنهض قريبا. كنت أستمع إلى لودفيغ. هزّ الغرفة الصّغيرة مثل خطواتِ عملاقٍ يسير لأميالٍ وأميالٍ بعيدة. في ليالي الصّيف، (وربّما سنذهب هذا الصّيف) كنتُ أنا وآيدا وجول نذهب إلى الملعب، ونجلس تحت الرّكائز على الدّرج الحجريّ البارد. وهناك بدت لي السّماء بعيدة جدّا، ولم أكن نفسي، كنتُ عاليا ومرفوعا. لم نكن نتحدّث، ثلاثتنا. جلسنا وشاهدنا لفّة الدّخان الزّرقاء في الهواء، وأعقاب السّجائر البرتقاليّة. ومن وقتٍ لآخر، كان الأولادُ بائعو الفُشار والمثلّجاتِ ومشروباتِ الصّودا، يتسلّقون الدّرج الحادّ مُثرثرين، فتتنحّى آيدا بعض الشّيء، وتُلامس شعرها الأزرق-الأسود، أمّا جول فيتجهّم. جلستُ رافعا رُكبتي، مُشاهدا الهلال المُضيء في الأسفل، والمايسترو المُرهق، صاحبِ المعطفِ الأسود، وحذوه الرّجال فاقدي الملامح، يتحرّكون معا في إيقاع كأنّه البحر. كانت هناك وقفاتٌ في الموسيقى لسرعة البيانو وصيحته وتردّده. بإمكان كلّ شيء أن يتوقّف ما عدا تسلّق عازف الكونترباص المُنفرد. كان يصل إلى ارتفاع مّا، وكلّ شيء يلتحق به، آلات الكمان أوّلا ثمّ الأبواق، فالنوتات المنخفضة الحزينة والعميقة، والنّاي ثمّ الطّبول وهي تُدقّ بمرارة، تقرع، تقرع، وترتفع معا، ثمّ تتوقّف بتهشّم كأنّه انبلاج الفجر. عندما سمعت أوّل مرّة مقطوعة المسيح، كنتُ وحيدا. تدفّق دمي كالنّار والنّبيذ. بكيتُ، مثل طفل يبكي من أجلِ حليبِ أمّه، أو مُذنِبٍ يركض لملاقاة الرّبّ.
والآن، عبر الموسيقى، سمعتُ وقع خطواتٍ على الدّرج. وضعت سيجارتي جانبا. كان قلبي ينبض بقوّة شديدة إلى درجة أنّي اعتقدتُ أنّه سيمزّق صدري. طرق أحدهم الباب.
فكّرتُ: لا تجب. ربّما ستذهب بعيدا.
ولكنّ الطّرق تكرّر مرّة أخرى، وأكثر قوّة هذه المرّة.
“دقيقة واحدة” قلت. جلستُ على طرفِ السّرير وارتديتُ روب الحمّام. كنت أرتجف كالمجنون. “بحقّ المسيح يا بيتر، لقد مررت بهذا سابقا. ما أسوأ شيء يمكن أن يحدث؟ ألاّ يكون لك غرفة. العالم مليء بالغرف.”
عندما فتحت الباب، كانت صاحبة المكان تقف هناك، بوجهها الأبيض – المُحمرّ، وبحالة هستيريا.
– من أنت؟ لم أُؤجّر هذه الغرفة لك.
كان فمي جافّا. بدأت أقول شيئا مّا.
لا أستطيع إيواء أناسٍ ملوّنين هنا.” قالت “كلّ السّكّان يشتكون. والنّساء يخشين العودة إلى البيت ليلا.
– ليس هناك ما يخشينه مني. قلتُ.
لم أستطع التّرفيع من صوتي. كان يُصَرُّ ويهتزُّ داخل حلقي، وبدأ ينتابني الغضب. أردتُ قتلها. “لقد أجّر صديقي هذه الغرفة لي” قلت.
– حسنا، آسفة، ولكن ليس لديه الحقّ لفعلِ ذلك. ليس لديّ أيّ شيء ضدّك، ولكن عليك أن تخرج.
كانت نظّاراتها تلمع، عاتمةً على ضوء الدّرج. انتابها الرّعب حتّى الموت. كانت خائفة منّي، ولكنّها أكثر خوفا من فقدان سكّانها. كان وجهها ملوّنا بالغضب والخوف. نَفَسُها يخرج بسرعة شديدة، وبعض اللّعاب يتجمّع عند طرفي فمها. كان نفسها كريها، كأنّه هامبرغر فاسد في يوم من أيّام تمّوز.
– لا يمكنكِ إخراجي، قلتُ، أُجّرت هذه الغرفة باسمي.
بدأت أُغلق الباب كأنّ الأمر كان مُنتهيا:
– إنّي أعيش هنا، فهمتِ، هذه غرفتي، لا يمكنك إخراجي.
– أخرج من بيتي! صرخت. من حقّي أن أعرف من يكون في بيتي. هذا حيّ للبِيض. لا أُؤجّر للأشخاص الملوّنين. لماذا لا تذهب شماليّ المدينة، إلى حيث تنتمي.
– لا أحتمل الزّنوج، قلت لها.
بدأت بإغلاق الباب مرّة أخرى، ولكنّها تحرّكت واعترضت الباب بقدمها. رغبت في قتلها. شاهدتُ وجهها الأبيض المجعّد والغبيّ والمرعوب، وأردتُ أن ألتقط هراوة أو فأسا وأنزل بها بكامل قوّتي، قاسما جمجمتها في وسطها، حيث تفرق شعرها الرّماديّ بلون الحديد.
– ابتعدي عن الباب، أرغب في ارتداء ملابسي.
ولكنّي عرفتُ أنّها تفوّقتْ، وأنّي في طريقي إلى المغادرة. حدّقنا في بعضنا البعض. لم يتحرّك أحد منّا. كان ينبعث منها الخوف والحنق وشيء آخر. أيّتها القحبة التّافهة، فكّرت. قلتُ بشرّ “تريدين الدّخول ومشاهدتي؟” لم يتغيّر وجهها. ولم تبعد قدمها عن الباب. وخزتني بشرتي. ثقبت لحمي لسعات صغيرة حارّة. كنتُ واعيا بجسدي تحت روب الحمّام، وكان الأمر شبيها بارتكابي لأمر مّا خاطئ، أمر شنيع حدث منذ سنواتٍ لم ينسه أحدٌ وسأُقتل بسببه.
– إذا لم تخرج، قالت، سأحضر شرطيّا لإخراجك.
أمسكت الباب حتّى أتجنّب لمسها.
– حسنا، حسنا، بإمكانك الحصول على الغرفة اللّعينة. والآن اخرجي ودعيني أرتدي ملابسي.
انصرفت. صفقت الباب. سمعتها تنزل الدّرج. رميت أشياء في حقيبتي. حاولت البقاء لأطول وقتٍ ممكن، لكنّي جرحتُ نفسي أثناء الحلاقة، لأنّي كنتُ خائفا أن تعود مصحوبةً بشرطيّ.
كان جول يُعدّ قهوةً عندما دخلتُ.
– صباح الخير، صباح الخير، ماذا حدث لك؟
– لا غرفة في النّزل. قلتُ، اسكب قهوة لابن آدم الدّنيء.
جلستُ وألقيتُ حقيبتي على الأرضيّة.
نظر جول نحوي.
– أوه حسنا، القهوة قادمة.
أخرج فناجين القهوة. أشعلت سيجارة وبقيتُ جالسا هناك. لم أستطع التّفكير بأيّ شيء أقوله. عرفتُ أنّ جول يشعر بسوءٍ، وأردتُ أن أقول له بأنّ ما حدث لم يكن خطأه.
دفع القهوة أمامي ومعها السّكّر والكريم.
– ابتهج يا عزيزي. العالم شاسع، والحياة- الحياة إنّها طويلة جدّا.
– اغلق فمك، لا أريد سماع أيّ شيء من فلسفتك اللّعينة.
– آسف.
– أقصد، دعنا لا نتحدّث عن الجيّد والحقيقيّ والجميل.
– حسنا، ولكن لا تجلس هناك متشبّثا بآداب الطّعام. اصرخ إذا أردت.
– لن يجدي الصّراخ نفعا. أيضا، أنا ولد كبير الآن.
حرّكتُ قهوتي.
– هل تشاجرت معها؟ سأل جول
حرّكت رأسي.
– لا.
– لماذا لا بحقّ الجحيم؟
هززت كتفيّ، خجلا الآن بعض الشّيء. لم يكن بوسعي التفوّق في الشّجار، بحقّ الجحيم.
– كان بوسعك التفوّق، وجعلها تعيش بعض اللّحظات الصّعبة.
– إلى الجحيم، لقد سئمت من هذا. ألا أستطيع الحصول على مكان أنام فيه دون أن ينتهي الأمر في المحاكم؟ اللّعنة، تعبتُ من الشّجار مع أيٍّ كان على شيء يأخذه الجميع مُسلّما. تعبت يا رجل، تعبت. هل شعرتُ يومًا بالقرف حتى آخرك؟ حسنا، أنا قرفان حتى آخري. وأنا خائف. اللّعنة، كنت أحارِبُ طويلا جدّا إلى درجة أنّي لم أعد بشرا بعد الآن. لستُ بوكر واشنطن. ليست لي أيّ رؤية لإعتاق أيّ أحد. أُريدُ إعتاق نفسي. إذا استمرّ هذا لوقتٍ أطول، سيرسلونني إلى بالفيو. سوف أستشيط غضبا، وأكسر رأس أحدهم. لست قلقا على تلك الغرفة الصغيرة البائسة. أنا قلق على ما يحدث لي، ما يحدث لي في الدّاخل. أنا لا أسير الشّوارع، بل أزحف فيها. لم أكن هكذا أبدا من قبل. الآن، عندما أذهب إلى مكانٍ غريب أفكّر في ما يمكن أن يحدث. هل سأُقبل، وإذا قُبِلْتُ، هل سأَقبل؟
– خُذ الأمر ببساطة. قال جول.
– جول، إنّي مهزوم.
– لا أعتقد أنّك كذلك. اشرب قهوتك.
– أوه، صرختُ، أعرفُ أنّك تعتقد بأنّي أجعل من الأمر دراميّا، أنّي مُصابٌ برُهابِ الآخرين وأختلق المشاكل. ربّما أعتقد هذا أحيانا، كيف أعرف؟ تتعوّد كثيرا على تلقّي الضّربات، حتّى تجد أنّك دائما في انتظارها. أوه، أعرف أنّك يهودي، وتتعرّض إلى الضّرب أيضا، ولكنّك تستطيع الدخول إلى حانة، ولا أحد يعرف أنّك يهوديّ، وعندما تذهب للبحث عن عمل، فستحصل على عمل أفضل منّي. كيف يبدو الأمر؟ ماذا أقول، لا أعرف. أعرف أنّ للجميع مشاكلهم، ولا شيء سهل، ولكن كيف أفسّر لك ماذا يعني أن تكون أسود، بينما أنا لا أفهم ذلك ولا أريد، وأقضّي بقيّة حياتي محاولا نسيان هذا؟ لا أريد كُره أحد – ولكن الآن ربّما، لا أستطيع حُبّ أحد أيضا- هل نحن صديقان؟ هل نستطيع أن نكون صديقين فعلا؟
– نحن صديقان، قال جول، لا تقلق حيال هذا.
تجهّم.
– إذا لم أكن يهوديّا، ربّما كنت سأسألك لماذا لا تعيش في هارلم.
نظرت نحوه. رفع يده وابتسم.
– لكنّي يهوديّ، لذلك لم أسألك، آه بيتر، قال، لا أستطيع مساعدتك، اذهب وتمشّى، اشرب حتّى الثمالة، نحن متورّطان في هذا معا.
وقفت.
– سأكون هنا لاحقا، آسف.
– لا تأسف. سأترك بابي مفتوحا. ابق هنا لبعض الوقت.
– شكرا، قلتُ.
شعرتُ بأنّي أغرق. أفسدتني تلك الكراهية، مثل السّرطان في العظم.
قابلت آيدا على العشاء. التقينا في مطعم في القرية، مكان إيطاليّ في سرداب مظلم بشموع على الطّاولات.
لم تكن ليلة حافلة، وهو ما كنتُ ممتنّا له. عندما دخلتُ، لم يكن هناك سوى ثُنائيّين آخرين في الجهة الأخرى من القاعة. لم ينظر إليّ أحد. جلستُ إلى طاولة بمقعدين في الزّاوية، وطلبتُ كوكتيل سكوتش. تأخّرت آيدا، وشربتُ منه ثلاثا قبل مجيئها.
كانت جميلة جدّا في الأسود، ثوب بعنق طويلٍ مع قلادة من اللّؤلؤ. وكان شعرها مصفّفا على شكلِ بيج-بوي، يتدلّى بالكاد وراء أذنيها.
– تبدين جميلة جدّا يا عزيزتي.
– شكرا، تطلّب ذلك خمس عشرة دقيقة زائدة، ولكنّي آمل أنّ الأمر يستحقّ.
– كان يستحقّ. ماذا تشرب؟
– أوه، ماذا كنت تشرب؟
– كوكتيلات.
تشمّمت ونظرت نحوي.
– كم واحدا؟
ضحكت.
– ثلاثة.
– حسنا، قالت، أظنّ أنّه كان عليك فعل شيء مّا.
جاء النّادل. اخترنا كوكتيل مانهاتن وطبق لازانيا وسباقيتي بصلصة البطلينوس، وكوكتيل سكوتش آخر لي.
– هل كان يومك بنّاءً يا عزيزي؟ حصلت على عمل؟
– ليس اليوم، قلتُ.
أشعلتُ سيجارتها.
– عرض عليّ ميترو ثروةً لأذهب إلى السّاحل وأقوم بدور البطولة في مسرحيّة ابن البلد، لكنّي رفضتُ. اختيار مبني على تطابق، تعرفين. من الصّعب جدّا إيجادُ دورٍ محترم.
– حسنا، إذا لم يقترحوا عليك عرضا محترما قريبا، أخبرهم أنّك ستعود إلى سلزنيك قريبا. سيعثر لك على دورٍ جيّد – مجرّد فكرة عرضِ ابن البلد عليك، لا أتحمّلها.
– لا داعي لتقولي ذلك. أخبرتهم إذا لم يحصلوا لي على نصّ محترم خلال أسبوعين، فإنّ كلّ شيء انتهى.
– الآن نتحدّث، بيتر ولدي الصّغير.
جاءت المشروبات وبقينا صامتين لدقيقة أو دقيقتين. أنهيتُ نصف مشروبي بجرعة واحدة وبقيت ألعب بأعواد الأسنان على الطّاولة. شعرت بآيدا تشاهدني.
– بيتر ستسكر بشكل مريع.
– يا عزيزتي، أوّل شيء يتعلّمه جنتلمان جنوبيّ هو كيف يشرب باعتدال.
– هذه أسطورة قديمة قِدمَ صخور العهود الغابرة. وفي جميع الأحوال أنت من جيرسي.
أنهيتُ مشروبي وزمجرتُ في وجهها:
– هذا جيّدٌ تماما مثل الجنوب.
وعبر الطّاولة أمامي، رأيتُ أنّها تُعدّ نفسها للشّجار. ضاق فمها بعض الشّيء مُحدّدا ذقنها، حتّى ظهر ذلك الشّقّ المنخفض:
– ماذا حدث لك اليوم؟
امتعضتُ من اهتمامها ومن حاجتي.
– لا شيء يستحقّ الحديث عنه، تمتمتُ، مُجرّد مزاج.
وحاولتُ الابتسام لها ومسح الأسى.
– الآن أعرف أنّ هناك خطبا مّا. رجاء أخبرني.
بدا الأمر تافها بشدّة:
– تعرفين الغرفة التي تدبّرها لي جول؟ حسنا، صاحبة المكان طردتني منها اليوم.
– حفظ الرّبّ الجمهوريّة الأمريكية، قالت آيدا، هل تريد هدر بعض من أموال زوجي؟ بإمكاننا مقاضاتها.
– انسي الأمر، سينتهي الأمر بدعاوى قضائيّة في كل ولاية داخل الاتّحاد.
– ومع ذلك، مجرّد لفتة –
– اللّعنة على اللّفتة. سأتدبّر أمري.
وصلالطّعام. لم أرغب بالأكل. ضربتْ أوّل لقمةٍ معدتي كجرس. بدأت آيدا تقطع اللاّزانيا.
– بيتر، قالت، حاول ألاّ تشعر بسوء شديد. نحن مورّطون في هذا معا، العالم أجمع. لا تتركه يدعك تنهار. يجب أن تتعلّم كيف تتعايش مع الإكراهات.
– يسهل عليكِ قولُ هذا. قلتُ لها.
رمتني بنظرة سريعة ثمّ نظرت بعيدا.
– لست أدّعي أنّ هذا سهل. قالت
لم أصدّق أنّ بإمكانها فهم هذا فعلا، ولم يكن هناك شيء أستطيع قوله. كنتُ أجلسُ مثل طِفلٍ وقع نهرُهُ، أُطرق النّظر إلى طبقي، دون أن آكل أو أقول شيئا. أردتها أن تتوقّف عن الكلام وعن تصرّفها بحكمة حِيال الأمر، أن تتوقّف عن تصرّفها بهدوء ونضج. يا إلهي، لا أحد منّا نضج. لن نفعل ذلك أبدا.
– ليس الوضع مختلفا في أيّ مكانٍ آخر، تقول. هناك مجاعةٌ وأوبئة في كامل أوروبا. إنّهم يكرهون اليهود في فرنسا وإنجلترا. لا شيء سيتغيّر يا عزيزي. البشر أغبياء جدّا، فاقدون كثيرا للشّعور. لطالما كان الوضع هكذا. إنّهم يحاولون دائما تدمير ما لا يفهمونه. ويكرهون تقريبا كلّ شيء لأنّهم لا يفهمون سوى القليل.
بدأت أتعرّق من جهتي من الطّاولة. أردتُ أن أوقف صوتها. أردتها أن تأكل بصمت وتدعني وشأني. نظرت في الأرجاء باحثا عن النّادل لطلبِ كأسٍ أخرى. لكنّه كان في جهة بعيدة من المطعم، ينتظر بعض الأشخاص الذين دخلوا للتّوّ. قدِم الكثير من الأشخاص طوال جلوسنا هنا.
– بيتر، قالت آيدا، أرجوك يا بيتر لا تنظر هكذا.
كشّرتُ عن ابتسامة، تلك الابتسامة الملوّنة لبهلوان محترف.
– لا تقلقي يا عزيزتي، أنا على ما يرام. أعرف ما سأفعله. سوف أعود إلى أهلي حيث أنتمي، وأبحث عن عاهرة زنجيّة جميلة وأربّي قطيعا من الأطفال.
كان لآيدا حيلة أموميّة قديمة. خدعتها الابتسامة لاستعمالها الآن. رفعت شوكتها وضربتني بها بشدّة على مفاصل أصابعي.
– والآن توقّف عن هذا. أنت كبيرٌ كفاية على هذا.
صرختُ، ونهضتُ مواصلا صراخي وأسقطتُ الشّمعة.
– لا تفعلي هذا أيّتها القحبة، إيّاكِ أن تفعلي هذا أبدا.
تناولت الشّمعة، أوقفتها وحدجتني بنظرةٍ حادّة. أصبح وجهها شاحبا جدّا.
– اجلس، اجلس!
ارتميتُ على مقعدي من جديد. كانت معدتي بحاجة إلى ماء. كان الجميع ينظر إلينا. تجمّدت مكاني، وأنا أرى ما رأوه، رجل أسود وامرأة بيضاء، وحيدين معا. أعرف أنّ الأمر لم يكن يتطلّب الكثير لأجلب انتباههم.
– أنا آسفٌ، همهمتُ، آسف، آسف.
كان النّادلُ بقربي.
– هل كلّ شيء بخير يا آنسة؟
– نعم، تماما، شكرا لك.
بدت كأميرة تطرد عبدا. لم أنظر إلى أعلى. ذهب شبح النّادل بعيدا عنّي.
– عزيزي، قالت آيدا، سامحني، أرجوك سامحني.
حدّقتُ في غطاء الطّاولة. وضعت يدها على يدي، ضياءٌ وعَتَمة.
– لنذهب، قلتُ، أنا آسف جدّا.
طلبتْ فاتورة الحساب بإشارة. عندما جاءت، قدّمت إلى النّادل ورقة بعشرة دولارات دون أن تنظر نحوه. أخذت حقيبتها.
– هل نذهب إلى ناد ليليّ أو إلى السيّنما أو شيء مّا.
– لا عزيزتي، ليس اليوم، نظرتُ إليها، أنا متعب، أعتقد أنّي سأعود إلى بيت جول. سأنام على أرضيّته لبعض الوقت. لا تقلقي عليّ. أنا بخير.
نظرت إليّ بثبات. قالت:
– هل آتي لرؤيتك غدا؟
– نعم عزيزتي، من فضلك.
أحضر النّادل الباقي، وقدّمتْ له إكراميّة. وقفنا. بينما كنّا نعبر بين الطّاولات (غير ناظِريْنِ للنّاس) بدت الأرض كأنّها تنهارُ تحت قدميّ، وبدت البوابة بعيدة بشكل مستحيل. تحفّزت جميع عضلاتي. بدوتُ مُستعدّا للوَثْب. كنت أنتظر الضّربة.
وضعتُ يديّ في جيبيّ وسرنا إلى نهاية الحيّ. كانت الأضواء خضراء وحمراء، وأضواء المسرح من الجهة الأخرى للشّارع تُشعّ بالأزرق والأصفر، تنطفئ وتشتعل.
– بيتر؟
– نعم.
– سأراك غدا؟
– نعم، تعالي إلى بيت جول. سأنتظرك.
– ليلة سعيدة عزيزي.
– ليلة سعيدة.
بدأتُ السّير بعيدا. شعرتُ بعينيها على ظهري. ركلتُ غطاء قنّينة على الرّصيف.
ليحفظ الرّبّ الجمهوريّة الأمريكيّة.
نزلتُ إلى محطّة الأنفاق وركبتُ في قطار شماليّ المدينة، غير عارف وجهته وغير مهتمّ. أحاطني أشخاصٌ مجهولون منعزلون، وارء الجرائد والماكياج، بدينون، بأقنعة سميكة وأعين عريضة. شاهدت الوجوه الفارغة. (لم ينظر إليّ أحد.) نظرت إلى الإعلانات، نساءٌ مزيّفات ورجالٌ بخدود مورّدة يبيعون السّجائر والحلوى وكريم الحلاقة وقمصان النّوم والعلكة، والأفلام، والجنس – جنسٌ بلا أعضاء، أشدّ جفافا من الرّمل، وأكثر سرّية من الموت. توقّف القطار. ركب شابّ أبيض وشابّة بيضاء. كانت جميلة، قصيرة وممشوقة. ساقان جميلتان. كانت تمسك ذراعه. كان من النّوع الرياضيّ، أشقر متورّدا. كانا يرتديان لباس الصّيف. نفخت الرّيح من الأبواب في فستانها الفضفاض. صرخت صرخةً طويلة، شادّةً الفستان من الرّكبتين وقهقهت ناظرة نحوه. قال شيئا لم أستطع تبيّنه، ثمّ نظرت إليّ، فماتت الابتسامة. وقفت تواجهه وأعطتني بظهرها. نظرتُ من جديد إلى الإعلانات. ثمّ كرهتها. أردتُ القيام بشيء لإيذائها، شيء يكسر قناع الخدود الورديّة. لم ننظر إلى بعضنا البعض مرّة أخرى، أنا والشّابّ الأبيض. نزلا في المحطّة الموالية.
أردت مواصلة الشُّرب. نزلتُ في هارلم وذهبتُ إلى حانة متهاوية في الشّارع الخامس. أهلي، أناسي. كان المتحيّلون يقفون في الزّاوية، ينتظرون. والنّساء في فساتين الصّيف ينططن في أحذية الكعب العالي المتمايلة. كلك، كلاك، كلكْ، كلاكْ. في الشّوارع، كان هناك رجال شرطة بيض على الأحصنة. وفي كلّ حيّ، كان هناك شرطيّ آخر مترجّل. رأيتُ شرطيّا أسود.
ليحفظ الرّبّ الجمهوريّة الأمريكيّة.
كان الجوك بوكس يُطلق أغنية “هامبس” الراقصة. كان المكان مزدحما. سرتُ نحو النّادل.
– واحد راي. قلتُ.
كنتُ أجلس إلى جانب جدّة أحدهم.
– هلّلو بابا، ما شرابك؟
– أوه عزيزتي، لا تستطيعين الحصول عليه. قلتُ لها.
جاء كأسي الرّاي وشربت منه.
– أيّها الزّنجي، قالت، لابدّ أنّك تعتقد أنّك شخص مهمّ.
لم أجب. التفتت عائدة إلى بيرتها، مستمعة إلى الجوك بوكس، بوجهٍ متجهّم وثقيل وممتعض. شاهدتها تخرج من مجال رؤيتي. كانت جميلةً في السّابق، بل فاتنة، قبل أن تبدأ الإدمان على الشّراب والزّحف على أسرّة عديدة. أصبحت الآن مترهّلة، بلحمٍ يتدلّى من تحت فستانها الخفيف. خمّنتُ كيف ستكون في المضاجعة، ثمّ أدركتُ أنّي لستُ متحمّسا كثيرا لها. ضحكتُ ووضعتُ كأسي جانبا.
– نفس المشروب، قلتُ، وبيرة كمرطّب.
كان الجوك بوكس يعزفُ شيئا آخر الآن، شيء نحاسيّ وتجاريّ لم يعجبني. تابعتُ الشُّرب، مُستمعا إلى أصواتِ أهاليَّ ومُشاهدا وجوههم. (ارحمنا أيّها الربّ، الجمهوريّة المرعوبة.) كنتُ في تلك اللّحظة أشعر بالأسف لأنّي أغضبتُ تلك المرأة التي ماتزال تجلسُ إلى جانبي، تخوض الآن حوارا عميقا مع امرأة أخرى أصغر منها. تقت إلى بعض الانفتاح، إلى إشارة مّا، شيء مّا يجعلني جزءا من الحياة من حولي. ولكن، لم يكن هناك شيء سوى لوني. إذا دخل غريبٌ أبيض فإنّه سيرى زنجيّا أصغر منه يشربُ في حانةٍ للزّنوج، متماهيا تماما مع محيطه، في مكانه الطّبيعي، مثلما يقول المثل. ولكن الأشخاص هنا كانوا يفكّرون عكس ذلك، مثلما فعلتُ أنا. لم أبدُأنّي شخصٌ له مكان طبيعيّ.
وهكذا تابعت الشُّربِ، قائلا لنفسي بعد كلّ كأسٍ، الآن سأذهب. ولكنّي كنتُ خائفا. لم أكن أرغب بالنّوم على أرضيّة جول. لم أشأ الذّهاب إلى النّوم. واصلتُ الشّرب والاستماع إلى الجوك بوكس. كانوا يعزفون إيلاّ فيتزجرالد “كاو، كاو بوجي”.
– اسمحي لي أن أهديكِ كـأسا. قلتُ للمرأة.
نظرت إليّ جافِلةً مسترابة، ومستعدّة لأن تستشيط غضبا.
– بصدق. قلتُ، مُحاولا الابتسام. لكما معا.
– سآخذ بيرة. قالت الأصغر سنّا.
كنتُ أرتعش كرضيع. أنهيتُ شرابي.
– حسنا، قلتُ. التفتُّ إلى البار.
– عزيزي، قالت الأكبر سنّا، ما حكايتك؟
وضع النّادل ثلاث كؤوس بيرة على البار.
– ليس لديّ حكاية يا ماما، قلتُ.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع