رؤيتهم وهُم يرَون البحر (فصل من كتاب “امرأة بِمُفردها”)

رؤيتهم وهُم يرَون البحر (فصل من كتاب “امرأة بِمُفردها”)

لماذا يجب قراءة هذه القصّة

Remove from my favorites

“أنا بحبّ البحر”، قالت الفتاة. أربعة أطفال وامرأة بالغة كانوا يسيرون ويتعثرون فوق الرمل. كانت الظهور والأكتاف والأيدي محمّلة بحقائب ظهر وأمتعة. زوّادةٌ زرقاء اللون شدّت يد المرأة وكتفها إلى الأسفل، ومن إبط أحد الأطفال أطلّت مظلّة حمراء على نحوٍ مائل. في منتصف الطريق، وفي أوج هذا الوضع المزعج، وقفت نور ابنة الثانية عشر عامًا وقالت إنها تحبّ البحر. “أنا بحب البحر”، قالت، وحتّى الأربعة الآخرون الذين ساروا وتعثّروا وقفوا وحدّقوا فيها ثمّ حدّقوا في البحر الذي كان لا يزال بعيدًا بعض الشيء ولكنه كان ممتدًا أمامهم، وتسمّرت نور مكانها وتأملته. لم يستغرق السفر من قريتها إلى الشاطئ أكثر من ساعة وربع الساعة، لكنّها لم ترَ البحر من قبل قطّ، لا هي ولا شقيقها محمد ابن الثمانية، ولا أبناء عمومتها: سمير، ابن العاشرة، وياسمين ابنة السابعة. هذه المساحات الهائلة الرائعة، والأمواج المتكسرة والهائجة والمتلاشية والمتجمّعة بخفّة على الشاطئ، اللون الأزرق الحاد تحت شمس الظهيرة التي أخذ حرّها في الانحسار، النسيم العليل يهبّ على وجوههم وأذرعتهم- في ظلّ الظروف التي وُلدوا فيها، لم يكن كلّ هذا الخير والجمال من نصيبهم،  ولا من نصيب ذويهم.

اجتازت المرأة والأربعة الذين رافقوها الحاجزَ العسكريّ بالقرب من مدخل قريتهم بسيارتها الفورد-فييستا الحمراء دون أن يتوقّفوا أو يقع توقيفهم. لم تكن لديها أدنى فكرة عن القوانين والأوامر في هذه المحافظات: هل ينطبق على الأطفال أيضًا ما هو مكتوب على اللافتة الحمراء الكبيرة التي تسبق الحاجز، والتي تُفيد بأن هذا المعبر معدّ للإسرائيليين فقط؟ كلا، حقيقةً لم تكن تعلم- ربما كان مسموحًا للأطفال أن يعبروا حتّى لو لم يكونوا من الإسرائيليين؟ لقد راجَت إشاعة من هذا القبيل، حتّى في القرية هذا ما رووه لها، ومع ذلك شعرت بانقباض في بطنها وارتجاف في ركبتيها أثناء دنوّ السيارة من موقف الجنود. خشيت أن ينتهي هنا كلّ البرنامج الجميل لنهار هذه الجمعة، أن يتلاشى كحلم-  البرنامج الذي عدّ الأطفال، وهي أيضًا، في الحقيقة، عدّت مثلهم بعض الشيء، اللحظات من أجله منذ ساعات الصباح المبكرة، على حدّ قول الأهل. وبالفعل، عندما وصلت إلى القرية كانوا ينتظرونها  عند درج منزلهم ومعهم صُررهم،  متوترين، لا تعلو وجوههم الجامدة ابتسامة أو طرف ابتسامة من فرط التوتر واللا يقين.

نعم، هي الأخرى كانت متوترة، وقد خشيت أن يقع توقيفها عند الحاجز، فيأمروها بأن ترَكن السيارة جانباً ويجرون تحقيقًا معهم ثمّ يقومون بإعادتهم. عندما غادروا القرية، خطر في بالها لوهلة أن تأمر الأطفال بعدم التحدث باللغة العربية إلى أن يجتازوا الحاجز، كما لو كانوا يجيدون التحدّث بلغة أخرى غيرها. لكنهم لم ينطقوا كلمة واحدة أساسًا. جلسوا كما لو أن البكم أصابهم، وقد اقتربت ببطء من موقع الجنود، بطنها ينقبض وركبتاها ترجفان. أنزلت زجاج النافذة، ولوحت محيّيةً الجندي المسلح الذي أشار إليها بذراعه أن تبطىء أكثر وربما حتى أن تتوقف، لكنها تباطأت كثيرًا وحسب. ابتسمت بحرارة وهزّت رأسها لتشير له بأن كليهما ينتميان إلى المعسكر ذاته، إلى هذا الشعب وإلى أسياد هذه البلاد، وهو ما تصوّره الجندي عند رؤية السيارة ووجه المرأة التي كانت تقودها، فردّ عليها بابتسامة وتحيّة، ومع ذلك سألها: “هل كلّ شيء على ما يرام؟” ليتأكّد من صدق اللهجة إلى جانب المظهر. “تمام، صبابا” أجابته، لكن عندما أحنى رأسه قصد إقحامه في إطار نافذة السيارة  ليلقي نظرة خاطفة على بقية الركّاب، داست أكثر قليلا على دواسة الوقود.

هيّا، تحرّك، ما بك تتطفّل عليّ. أرادت أن تقول له “أفسح مجالاً للعَيش”، وتراجع الجندي جانبًا، شبه مَدفوع، وواصلت هي سفرها، ورفعت بصرها نحو المرآة ورأت أنه لا يهتمّ وواصلَت القيادة. هذرت بينها وبين نفسها: “أوف، من يمتلك طاقة لكلّ هذه المشاكل المغيظة”. وصرخت تجاه الفضاء السّاكن: “نحن في إسرائيل!” وقد اندهشت هي نفسها من الإحساس الذي انتابها بأنّها في بيتها عند رؤية اللون الأخضر البارز في اتجاه ميفو بيتار وبارك بيغن، والذي استبدل على نحو فجائيّ اللون الأصفر القاتم للتلال والجبال المكشوفة شرقًا. “لقد اجتزنا، نحن في إسرائيل ، سنسافر إلى البحر!”

كلّ ذلك صارَ نسيًا منسيًا. الآن كانوا خلّفوا وراءهم بلاد الحواجز واجتازوا موقف الدفع عند مدخل بارك نيتسانيم، حيث لم يطالب أحد هناك بالتحّقق من هويّة هذه السيّدة والأطفال الهادئين الذين رافقوها، وإنّما اكتفوا بجباية رسوم الدّخول. وها قد عثرت على مكان لرَكن السيارة في موقف السيارات الكبير التابع لشاطىء الاستحمام، وقد ترجّل الأفراد الخمسة وأخرجوا معهم صُررهم من السيارة وأخذوا يسيرون في صمتٍ فوق الرمل باتجاه البحر.

ثم وقفت نور وقالت قَولها: “أنا بحبّ البحر”، ووقفت المرأة أيضًا ونظرت إليها وإلى الأطفال الثلاثة الآخرين الذين هم بدورهم وقفوا، كلّ بوضعيّة مغايرة، كما لو كانوا يلعبون لعبة الحركات،  وكَما لو أنّ الطفل الذي وقف مواجهًا الجدار في تلك اللحظة حوّل نظره كَي يرى ويتحقّق أيّ من اللاعبين أخفق في الثّبوت مكانه وتحرّك قليلا وبالتّالي توجّب عليه مغادرة اللعبة. لكن المرأة وجدت نفسها تنظر وتتفحّص الأربعة لكي تستفذ التجربة، وتعيش ثراء وجوهر هذه اللحظة التي انتظرتها منذ أن تمّ التخطيط لها وتحدّد السّفر: رؤيتهم وهم يرون البحر لأول مرة. عيون متفاجئة، متّقدة، وشفاه مفتوحة قليلا. من طرف ثغر ياسمين، الأصغر سنًا، سال خيط رضاب أبيض رفيع، على ما يبدو لم تزدرد ريقها. عينا محمّد الداكنتان كانتا شبه دائريّتين من فرط اتساعهما. بدا سمير على أهبة الضّحك، أمّا نور، التي كانت أكبر سنًا، وعلى مشارف مرحلة الصّبا، فقد كانت هي بالذات جديّة، وارتسمت على وجهها تعابير توّاقة، حالمة وحدّقت عيناها  في المَدى البعيد.

تلك اللحظة، في الغالب، طالت كثيرًا في ذاكرتها وحدها فقط. في الواقع، لا بدّ أنّهم سارعوا في البحث عن مكان لهم وسط زحام المصطافين، والمظلات والكراسي والحصر والمبرّدات والأطفال والكلاب وحلقات التعويم بكافة الأشكال والألوان والأحجام، وسط أنغام أجهزة المذياع المحمولة وضربات لعبة الماتكوت والصراخ والكلام بالعبرية والروسية والانجليزية، التي ستختلط بها بعد قليل أصوات نور ومحمد وياسمين ومسير بالعربيّة- بعد مدّة وجيزة سيتحدّثون بينهم بأصوات منخفضة حتى لا يبرزوا في المكان، لكنّهم بعد ذلك سوف ينسون وسوف بصرخون، كلّ تجاه الآخر وكلّ على الآخر، بنغماتهم الصادرة من الحناجر والتي تجد المرأة البالغة صعوبة كبيرة في تعلّم طريقة نطقها بشكل سليم.

لقد غرزوا المظلة  الحمراء في الرمل، وفرشوا بطانية تحت ظلّها، وقالت المرأة للأطفال إن هذا مخيمهم وإنّه يُسمح لهم بوضع الحقائب والأمتعة وخلع نعالهم والتوجه إلى غرفة الملابس لتبديل ملابسهم هناك، والعودة على الفور وعدم الابتعاد بأي شكل من الأشكال دون الإبلاغ ودون طلب الإذن. عادوا، واحدًا تلو الآخر، وكانوا ما زالوا مطيعين ومنضبطين. عادت نور ببنطال جينز طويل وقميص تريكو- كانت تبلغ من العمر اثنا عشر عاما فقط وبدا عليها أنّها قد التزمت بالقواعد المصريّة التي تنطبق على بنات جنسها. عاد سمير ببنطال قصير حتى الركبتين وعندما بدأ أخيرًا بالقفز والركض، تبيّن أنّ تحته يوجد خط عريض لكلسون أحمر قاتم عند الخصر، أضفى عليه مظهرًا عصريًا. عاد محمد وياسمين وحدهما يرتديان المايوه- ارتدى محمد شورت سباحة أخضر فاتحًا وارتدت ياسمين بدلة سباحة صفراء وخضراء مزينة بتنورة صفراء قصيرة جدًا لدرجة أنه لم يكن ممكنًا اعتبارها وسيلة ساترة، وربما حتى العكس: شكل من أشكال الاستفزاز الشقيّ، تعلن أنّها لم تُصنَع للسّتر وإنّما للكَشف، للكشف عما هو موجود في هذه الأثناء: جسد لطيف لفتاة صغيرة معافاة، ما زال يحتفظ بشيء من الاستدارة الطفوليّة.

الآن وقد تم تدوين هذا الوصف المفصّل من ذاكرتها وفقًا للملاحظات التي قيّدتها بعَجلةٍ بعد فترة وجيزة من الرحلة، أي منذ فترة طويلة- تزوجت نور وهي الآن على وشك إنهاء تعليمها العالي في موضوع الكيمياء، وقد خرج سمير من المدرسة ويعمل متدرّبًا في الكَراج. محمد صار في عامه الأخير في الثانوية العامّة، وفي الآونة الأخيرة، نضج كثيرًا عندما أصبح معالجًا مرافقًا لأخيه البكر الذي أصيب إصابة خطيرة في حادث طرق. وياسمين فتاة لا تخرج من المنزل بدون غطاء للرأس- الآن وهي تدرك أن ذاكرتها قد احتفظت بتفاصيل أكثر من هذه- تسأل نفسها لماذا نظرت إليهم وقتها هذه النظرة الفاحصة شديدة التدقيق لدرجة أنها حفظت حركاتهم وكلامهم وملابسهم بهذه التفاصيل. من الواضح لها أنه بصرف النظر عن الفضول لمعرفة كيف قام ذووهم بتجهيزهم لقضاء أول رحلة يقومون بها في حياتهم على شاطىء البحر، كان لهذه النظرة أيضًا غرض هدف عملي: أن تحفر في وعيها مظهر كل واحد منهم وتمييزهم بعلامات حتى لا يضيعوا، لا سمح الله، بحيث أنّه في حال أن اكتشفوا حريتهم فجأة في فضاءات الرمل والبحر هذه، وانفصلوا وابتعدوا وركضوا، كلّ منهم في اتجاه، فإنّها سوف تتمكّن من قَنصهم، على الأقل بعينيها، إن لم يكن بكلتا يديها،  اللتين أرادتا فعليًا تقييدهم بطريقة أو بأخرى خشية إخفاقها في الوفاء بوعدها لذويهم بإعادتهم إلى منازلهم عند المساء سالمين. وعدتهم بذلك دون أن يطلبوا منها أساسًا، وقد ردّوا عليها بأنّهم لا يشعرون بالقلق على الإطلاق- ما الداعي للقلق، وهم معها، قال لها والد نور وقد مدّ يديه قليلا ثمّ وضع يده اليمنى جهة قلبه، وهم يعرفون أنّه يمكنهم الوثوق بها كما لو كانت أمّهم التي أنجبتهم. يا للسخافة، قالت وقتها في قلبها، متى كان لها أربعة أطفال تحرسهم عند البحر، وزد على ذلك، لا يجيدون السباحة؟

ومن المؤكّد أنّ نظرتها المتفحّصة قد ساعدتها في البحث عنهم والعثور عليهم في السّاعات التي أعقبت ذلك- بنطال الجينز والقميص الأزرق التابعين لنور رفيعة القوام، والتي برزت جدًا بين البنات حاسرات الجسد اللواتي كنّ عند الشاطىء، والتنورة الصفراء القصيرة التابعة لياسمين، وخط الكلسون الأحمر التابع لسمير، والبنطال اللماع الأخضر التابع لمحمّد، الذي اختفى هو بالذات عدة مرّات من فرط الشبه بينه وبين عدد من الأطفال الآخرين الّذين ارتدوا المايوه الأخضر. عدّت: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، وكرّرت العدّ في البداية، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… لا، يكفي ثلاثة، أين محمّد؟ – “ركض محمّد إلى هناك”، أشارت نور. واحد اثنان ثلاثة، أربعة… لا، هذا ليس سمير، أين سمير؟- “ها هو سمير، مدفون في الرمل”، أرتها ياسمين…

ومع ذلك، فإنّها هي تذكر، تذكر وتعرف أنّه لم يكن الفضول وحده أو الهدف العمليّ وحده سبب تأملها الطويل للأطفال الأربعة، وإنّما أيضًا التّوق، الرغبة في رؤيتهم أطفالاً عاديين، أطفال تنكشف بشراتهم الملساء واللامعة من مياه البحر، أطفال تُمرغ فيه البوظة المخلوطة بالرمل على وجوههم المتوردة جوار الكشك، مجرد أطفال على شاطىء البحر. فهي لم تتمكّن من رؤيتهم على هذا النحو قطّ في منزلهم، في قريتهم- حيث هم أطفال عاديون هناك. من منظورها، كانوا دائما بالنسبة لها وقبل أي شيء جزأ لا يتجزأ من الواقع المشوش والمشوه لمكان محاط بأسوار وسيارات جيب عسكرية تمرّ رائحة غادية في الشارع الرئيسيّ، مكان يوقف فيه الجنود المسلحون في أحيان متقاربة أطفالا عائدين إلى المنزل من المدرسة لكي يتحقّقوا إن كانت على أيديهم آثار حجارة ألقوها… مكان حيث.. مكان حيث…

في تلك الجمعة، سرعان ما اختلطوا مع أطفال آخرين على شاطئ نيتسانيم ، ورشقوا سوية الرمل والأصداف على قناديل البحر التي انجرفت نحو الشاطىء لتلقى حتفها هناك دون أن تثير شفقة في قلب أحد، وتبادلوا التراشق بالرمال والماء، ثمّ تدحرجوا عند منحدر الكثبان الرملية، ثمّ  مُرغت البوظة والمثلجات على الوجوه، وتفككت الحزمة مرارا وتكرارا. لقد اكتشفوا حريتهم بالفعل، كلّ على طريقته.

وجدت ياسمين جالسة على الرمال وتزين أصداف قصر صغير من الرمل شيّدته. رأت سمير، وهو ولد قويّ البنية لكنّه قصير القامة، مستلق على جنبه وقدماه في المياه الضحلة ورأسه مسنود إلى مرفقه ويتأمل في صمت الرّمل الرّطب وقد ظلّ على هذه الحال لحظات طويلة. رأت نور من ظهرها، تقف على الخطّ المائيّ، لعلّ وجهها اكتسى مرة ثانية تعابير تواقة حالمة وحدّقت عيناها في المدى البعيد  صوب وعدٍ بشيء آخر، جديد، مؤثّر. وقد قنصت عيناها محمد وهو يركض فوق الصخور المسطحة داخل المياه وينحني وينظر إلى الداخل وينتشل شيئًا من البحر. توجّهت إليه ورأت عند قدميه سمكة صغيرة ترتعش وتنتفض، فالتقطها وأخذت تتخبط في راحة يده.

“أعدها فورًا إلى الماء، سوف تموت، أسرع! أعدها!” صرخت عليه بغضب، وقد صارَت فجأة هستيريّة. واندهش الصبي وألقى أخيرًا غنيمته البائسة في الماء. نظرت لحظةً إلى المكان أين عامَت السمكة بين الصخور، ولم تجرؤ على التأكّد من إعادتها إلى مكان نشأتها لتعيش هناك، أو لتحتضر وتفنى.

“هل ترون، لقد أعدتُهم جميعًا إليكم أحياء سالمين”، قالت أمام أفراد الأسرة الكثر الذين تجمهروا حول سيارة الفورد فيستا الحمراء، التي انطلق الأطفال منها كالرّيح وانتشروا مختفين عن الأنظار، بينما مكثت هي داخلها لحظة أخرى حتّى تستعيد هدوءها قليلا من عناء القيادة على أصوات الأناشيد والخطابات والتصفيق  التي ملأ بها الأطفال فضاء السيارة في طريق العَودة- كم كان مريحًا الهُدوء الذي سكَنها في السّفر في الاتجاه المعاكس- ثمّ حرّكَت ودفَعت ورفعَت مؤخّرتها عن المقعد وخرجت بشيء من الثّقل، ولم تكن رشيقة الحركة. لم لا تبدل سيارتها هذه بسيارة أعلى؟ كان قد خطر ذلك في بالها قبل أن تتوجّه بفخر إلى اللفيف: “هل ترون، أحياء سالمين”.    

كان الليل قد حلّ، وساد الظلام في بلاد ما وراء الحاجز عندما عادوا. لم يقف أيّ جنديّ هناك ليجري تفتشيًا للمسافرين في هذا الاتجاه، من إسرائيل إلى الضفّة الغربيّة، ولم ينقبض البطن ولم ترتعش الركبتان. وحدها الرّوح كادَت تنفجر من حجم التوتر الذي زال عنها الآن، عندما عادت ومعها الأربعة- لم يضلّ أحد منهم الطريق، لم يغرق منهم أحد. لكن خلافًا لها، يبدو أنّ أحدًا من أفراد الأسرة لم يخش من عدم عودتهم بسلام. لم تكن راحة وإنّما وهجٌ، وهجٌ حقيقي تدفّق الوجوه الكثيرة في ساحة المنزل في القرية، من ضوء المصباح الشديد الذي أنارها.

قال لها والد سمير وياسمين بالعبرية “أنت حتى لا تعرفين أهميّة ما فعلتِ”، ووقف وألقى خطابًا قصيرًا حول مدى أهميّة أن يبينوا لهؤلاء الأطفال أنه بإمكانهم أن يكونوا وسط أطفال يهود، أن يبدوا مثلهم وأن يلعبوا مثلهم، أهمية ألا يكبروا فقط لكي يكرهوا. عدا عن ذلك، فقد حققت لهم حلما، حلم أن يروا البحر، “وهذا ما لن ينسوه لها أبدًا. لن ينسوا لك هذا أبدا. شكرًا لك، ألف شكر”.

يصعب عليها الآن أن ترى هذه العبارة مكتوبةً. لماذا؟ لأنها ساذجة؟ لأنها مُغرقة في الانفعاليّة؟ ولعلّها كانت في ذلك الوقت لا تزال تعبّر عن أمل صادق وحقيقيّ قد تبخر الآن من قلبها ومن قلب الخطيب، الذي أصبح اليوم جدًا لأحفاد لا يزالون ممنوعين من السفر إلى شاطىء البحر، الذي يبعد مسافة ساعة عن قريتهم.

هل ترغبون في شيء آخر?
21
جبران خليل جبران
وردة الهاني

© פרויקט הסיפור הקצר 2024

Made with ☕ and 🚬 by Oddity

البحث:

تريد حفظ لوقت لاحق؟

اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع

Short Stories
Straight to Your Inbox

Oops, this is a personal area feature.
The personal area is only available to subscribed users. Sign up now for free to enjoy all the personal area features.