اقرؤوا في:
(من رسائل القرّاء)
من مئات الرسائل الّتي تصل بريد الصحيفة اخترنا هذه المرّة رسالة من قارئ آثر أن يوقّع اسمهُ ب ر.ع. طالبا نشرها في زاوية “من رسائل القرّاء”، يمكنني القول أنّها ليست رسالة عاديّة، أو ليست من نمط الرسائل التي تصل بريدنا عادة، ليس لتفاصيلها الإيروتيكيّة الغامضة، ولا أقلّل من شأنها طبعا، بل لأنّها تلقي الضوء على أزمة أخلاقيّة ستثير الكثير من الردود واللغط. أراهن أنّ هذه الرسالة ستربككم كما أربكتني أنا المتمرّس في العمل الصحفيّ منذ عشرات السنين.
سنقوم بنشر تعليقاتكم على محتواها في العدد القادم.
رئيس التحرير
(نصّ الرسالة كما وصلت مكتب رئيس التحرير قبل أسبوع، وتتفرّد الصحيفة بنشرها)
“ر.ع يبحثُ عن عينيه”
هي رسالة بوح لا أكثر، أو تقيّؤ إراديّ إن شئتم. لا أطلبُ تفهّما ولا تسامحا من أحد، هذه أمورٌ لم تكن تعنيني يوما ولا تعنيني الآن. كلّ ما في الأمر أنّني مثقلٌ جدّا بما أحمل ولا أثق بخزعبلات المعالجين النفسيين، كما أنّني لا أجدُ بين أصدقائي من يمكنه أن يتركني أبوح أمامه بما يخنقني دون أن يدخلَ بيني وبين جلدي ولا يعود يخرج من هناك إلاّ وقد سلّم أنّني مجنون أهذي.
هذه الرسالة هي بديل مؤقّت عن وقوفي المرضيّ أمام المرآة وتفقّد ما تبقّى منّي؛ وجهي، شعري، جسدي الرياضيّ، عضلاتي المفتولة بإحكام، كلّها ما زالت على حالها، إلاّ عيناي لا أراهما في المرآة وأسأل كيف أرى انعكاسي ما دمتُ لا أراهما؟ لا أرى عينيّ، أرى تجويفيْن فقط، كهفين أسوديْن غارقيْن في ظلمة عميقة.
أنا ببساطة شديدة أبحثُ عن عينيّ.
لم ينبّهني أحد أنّني فقدتُ عينيّ، يبدو أنّني الوحيد الذي أرى ذلك.
لن أعتذر عن أيّ كلمة سأقولها هنا(ما عدا لغتي الركيكة، لستُ أديبا ولا صحافيّا، أعتذر) أو أيّ تصرّف، مرّة أخرى هذا شأني الخاصّ أتدبّره بنفسي. لماذا أكتب إذن؟
منْ يدري، قد يكون بينكم أيضا من يبحثُ عن عينيه مثلي.
من أين أبدأ؟ منذ لاحظتُ أنّ تلك المرأة الخمسينيّة تراقبني تارّة من شرفة منزلها وتارّة وهي تمرُّ أمامي وأنا أعملُ في تشذيب الأشجار في حدائق القرية التعاونيّة. تنظرُ إليّ طويلا وتتابعني بنظراتها حتّى تغيب عنّي أو أغيب عنها.
لم تترك لي مجالا كبيرا للشكّ في نواياها. بعد يومين كانت تقفُ أمامي وتدعوني لفنجان قهوة في بيتها كي تعرض عليّ أمرا ما. استبعدتُ فكرة أنّها ستعرض عليّ العمل في حديقتها، نظراتها لم تكن تتفحّص كفاءاتي الخضراء، أو عضلاتي المُثيرة، كانت تحدّق طويلا في عينيّ وتكاد لا ترفعُ نظراتها عنهما.
بعد دقائق صمت مُربكة فاجأتني:” ابنتي في الخامسة والعشرين من عمرها، أصيبت قبل أعوام بتصلّب الشرايين وهي ترقد في الغرفة المُجاورة شبه ميّتة، شبه حيّة. اعتدتُ على هذا البينَ بين، بين الحياة والموت، كانت عيناها تخاطبانني وتقولان الكثير، كنتُ أسمعُ جيّدا وأفهم، ولكنّها منذ شهر صمتت، أقصد عيناها توقّفتا في مكان ما، هل تفهمني؟ هل تعرف معنى أن تكون العيون خرساء؟ شهرٌ كامل ولم تتلفّظ عيناها بكلمة واحدة، سترحلُ قريبا، أعرف ذلك، سترحل دون أن تقول كلمة وهذا يؤلمني.
هل تقبل أن تقضي ليلة معها في سريرها؟
أومأتُ برأسي موافقا، إلا أنّه كان فارغا من أيّ نيّة أو فكرة. هل كُنتُ أعي تماما ماذا يعني أن أكون هديّة الأم لابنتها الّتي تموت؟ لا، كنتُ فارغا من أيّ إحساس يمكنُ تسميتهُ.
– غدا عيدها الخامس والعشرون وقد يكون الأخير. ماذا أهدي فتاة تنامُ على قبر مفتوح منذ سنوات؟
– شابا ومتعة؟
– لا ليست المتعة، بل الدفء لعلّه يكسر الجمود الجليديّ في عينيها، من حقّها أن تختبر دفئا حقيقيّا لحياة سُجنت فيها تحت مسمّى كاذب. هل تفهمني؟
لم أفهم. أومأتُ برأسي مرّة أخرى.
في الغرفة المُجاورة قرأتُ عينيها، رأيت فيهما انعكاسي بكلّ وضوح وبؤس، رأيتُ وجهي وشعري وأنفي وكهفيْن أسودين كبيريْن. رأيت انعكاسي في مرآة جليديّة مشطورة إلى نصفين، رأيت شريط حياتي كاملا.
أعرف أنّ السؤال الذي يشغلكم جميعا الآن هو هل ضاجعتها؟ هل استمتعتُ؟ هل شعرتُ بمتعتها؟ أعرف أيضا أنّ كلّ واحد منكم تمنّى لو كانت هناك كاميرا ترصد الحدث من أوّله لآخره، لو كان بإمكانه التحكّم بها من بعد حتّى يُسلّطها على الأعضاء الحميمة وحركاتها الآليّة.
أعرفُ أنّني منذ ذلك اليوم وأنا أبحثُ عن عينيّ.
سؤال واحدٌ يُلحُّ عليّ دون رحمة: هل فعلا كانت هي الميّتة الحيّة في تلك الغرفة أم أنّ كلينا كان كذلك؟
حيّا ميّتا.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع