اقرؤوا في:
لم يمرّ على زواجي سوى ستّ سنوات حتى بدأت أتعب وألهث، خصوصًا لدى صعودي الأدراج، اعتقدت أنّه تعب طارئ سينتهي، ولكنّه استمر وتفاقم. بعد الفحوصات الكثيرة قالوا لي “إنّ عضلة القلب واهية، لا مفرّ لك من قلب جديد وإلا…!”.
حدث تراجع خطير بأدائي لمهامي المُهمّة، وأخطرها الواجبات الشرعية.
حتى أن أم العيال الرؤوم قالت لي بلهجة تهديد “ازرع قلباً جديداً وإلا…!”
انتظرت العملية أكثر من عامين، وتدهورت حالتي أكثر، وبطريقة ما بُلّغتُ أنه عليّ تقديم رشوة للمسؤولين في المستشفى، كي يُعجلوا لي بقلب جديد وإلا..!
قرّرتُ رفض تقديم الرشوة مبدئياً، حتى ولو فطست، وتمسّكتُ بحقي بالحصول بشرف على قطعة الغيار التي يحتاجها جسدي، فتعقّد الأمر وبات من شبه المستحيل حصولي على ما أريد.
حينذاك اكتشف الوالد أن له قريبًا تلاعبت به العواصف منذ نكبة الفلسطينية الأولى إلى أن رمته أخيراً في الدنمارك.
باع الوالد قطعة الأرض الأخيرة التي نملكها، بالإضافة لتبرعات من أهل الخير، وسافرت إلى قريبه في الدنمارك، وبأسرع مما توقعت حدث ما تمنيت، فقد ارتطم أحدهم بكاسحة جليد بسيارته وكف مخيخه عن البث والإرسال فانتزعوا قلبه السليم وزرعوه مكان قلبي السقيم.
زارتني في المستشفى صديقة (فيلكس) صاحب القلب، واعتبرت أن لها حصة منذ الآن في جسدي، وهمّت بي تعانقني وتقبلني فبادلتها المشاعر نفسها وبحماس كبير.
منذ غُرس قلب فيلكس في صدري، لم يعد بإمكاني كبح مشاعري التي فاضت بكل الاتجاهات، ولاحظت أنني صرت أسقط في شباك الحب والغواية بسهولة، وصرت أتذكر قلبي القديم السقيم فأقول بمرارة “لعنك الله من قلب جاف سقيم، لقد كنت حائلاً بيني وبين السعادة”.
لن أنسى فضل هذا الدنماركيّ ما حييت، والذي ما زالت صديقته تراسلني عبر الإنترنت، فتسألني عن أحوال قلب صديقها (فيلكس) وتكتب: “آمل أن لا تتعبه يا (عبدل)، وما زالت ترسل له بطاقات معايدة في ميلاده، وفي ذكرى أول تواصل جسدي بينهما إذ تكتب” في مثل هذه الليلة تضاجعنا وكنا سعداء على كومة ثلج يا حبيبي”. الغريب أنني حين كنت أقرأ رسائلها يتسارع نبض (قلبه)، ويكاد يقفز من صدري، وكأنه جزيرة ذات حكم ذاتي داخل جسدي.
صرت أحبّ المعلبات من اللحوم والأسماك والألبان والأجبان الدنماركية، والتي ما كانت تخطر لي على بال في فترة القلب القديم، أدمنتها، أما الانقلاب الحقيقي فقد ظهر في مباريات كرة القدم، فبعد أن كنت منحازًا تلقائيًا لفرق العالم الثالث، مثل الكاميرون وإيران ومصر، فقد وجدت نفسي متورطاً بتشجيع المنتخب الدنماركي بحرارة، وهذا أزعج الأصدقاء والأقرباء الذين اعتبروه تراجعاً مبدئيًا وموقفًا عدائياً لحركات التحرر وممالئاً للاتحاد الأوروبي ذي الموقف الهلامي من قضيتنا، وسال لعابي إذ رأيت على رف إحدى الحوانيت زجاجة فودكا عليها صورة لوعلين وكأني أعرفهما، ولولا لطف الله لصرت مدمناً للفودكا. وتوقع أهل بلدي المتشائمون كعادتهم أنني سأموت بسرعة، وقالوا بسذاجة “هذا القلب الإسكندنافي لن يلائم جسد عبد الله اليعربي، واكتشفت أن أحد الشعراء الأصدقاء بدأ بنظم قصيدة رثاء عمودية لحضرتي كي لا تأخذه وفاتي على حين غرة، وكي لا يبدو ركيكاً عند إلقائها في حفل التأبين الذي سيبادر هو نفسه لإقامته فقط كي يلقي القصيدة، ولكنني خيّبت ظن الشاعر وأبناء بلدي الكرام، بل وصرت أشيّعهم واحداً تلو الآخر فأكسب بهم أجراً، وكثيراً ما سمعت في الجنازات بأذنيّ “توقعنا هذا لعبد الله وليس لفلان”، ونكاية بهؤلاء الذين توقعوا لي الرحيل السريع، ذهبت إلى شركة تأمين جدّية وأمنت على قلبي بل على كل أعضاء جسدي، وتبين لي أن شركات التأمين تحترم القلوب الإسكندنافية ومستعدة لتأمينها لمدة خمس سنوات تجدد بعد الفحص، بينما ترفض تأمين القلوب التايوانية أو الإفريقية، علماً أن أبحاثاً أكّدت جودة القلب الإفريقيّ رغم رخصه، وتسربت أنباء تقول إن مفاوضات سرية جرت بين مؤتمر الوحدة الأفريقية وشركة سيمنز الألمانية التي تنوي احتكار القلوب الأفريقية نظراً لرخصها لزراعتها في صدور الأوروبيين والأمريكان. صرت أطرب لموسيقاهم التي ما كنت أطيقها من قبل، وتحمّست لهم في مسابقة الأغاني الأوروبية، وفي يوم ما ودون تنسيق مسبق وجدت نفسي أدخل السفارة الدنماركية وأهتف بحرارة وبلا وعي مني (بالروح بالدم نفديك يا اندرسون)، وتبين أن اندرسون هذا كان مرشحاً لرئاسة البرلمان الدنماركي في حينه، ولم أصح من هذه النوبة، إلا حين تدخل حارس السفارة الذي ظنني مقبلا على عمل إرهابي، فأهنت وصُفعت وفُتح ملف ضدي ولم يشفع لي ولم يطلق سراحي إلا قلب (فيلكس)، فقد تدخل السفير الدنماركي في تل أبيب، وعانقني بحرارة، وقبلني بالضبط تحت خصلة ثديي الأيسر بعد أن تفهم دوافعي، إلا أنه وأثناء عودتي وقع لي حادث طرق مروع، لم أصح منه إلا بعد اسبوعين، كان الحادث قد حطمني تماماً وأصيبت معظم اعضاء جسدي حتى الخصيتين والعضو العزيز، وتدخلت شركة التأمين فوراً وبلا مماطلة فأرسلتني إلى عدة أقطار للعلاج، بدأت بأمريكا فرجعت منها أطول بتسعة سنتمترات من طولي الأصلي إذ حصلت على ساقيّ لاعب كرة سلة، ثم عرجت إلى بريطانيا فحصلت على ذراعين في حالة جيدة ولم يعبهما سوى شامة لفتاة عارية نُقشت على الذراع اليسرى، وحصلت على كليتين من أصل هندي، أما الخصيتان والعضو العزيز فمن رجل هولندي تنازل عنهما نهائياً، بعد أن قرر الانتقال إلى معسكر الجنس الآخر، أما اللسان فقد سُحب من بلعوم مومس فرنسية، وأُحضرت لي عينان ذهبيتان رائعتان لراقص سامبا من البرازيل. هكذا عدت كما كنت، وربما أفضل حالاً من الأصل.
إلا أن المشكلة التي لم أتوقعها هي أنني بدأت أتأخر بالرد عندما ينادونني باسمي (عبد الله)، وصرت أنتبه للكثيرين يقولون لي لماذا لا ترد! ألا تسمع بأننا نناديك! كنت أسمع اسم عبدالله، فألتـفــت حولي معتقداً أنه شخص آخر غيري! بعد التشاور خرج الأصدقــاء والأحباء بقرار، لا حل إلا أن ندعوه عبده فيلكس ، وسيعرف أنه المقصود! وبالفعل صار قلبي ينقز عندما اسمع هذه التسمية وأنتبه فوراً..!
خلال اشهر اعتاد الناس على اسمي وشخصيتي الجديدة، حتى والديّ اللذين أبديا في البداية مقاومة شرسة، رضخا للأمر الواقع واضطرا أن ينادياني بالاسم الجديد.. عبده فيلكس! عندما لفظها والدي أول مرة التقت عيناي البرازيليتان بعينيه المخضلتين، كان في صوته رجفة وحزن، وكان يرتعد كأنه قابض على جمر وهو يسمع طريقتي الفرنسية في لفظ الكلمات حتى خلته سيتقيأ، أدركت أنه أدرك أنني لم أعد عبد الله نفسه ابنه، وفلذة كبده الذي خرج من صلبه، وبين فينة وأخرى أنتبه إليه يهذي عبد فيلكس فيلكس.. فيلكس عبده فيلكس فيلكس.
ֹ(نشرت في صحيفة القدس العربي، وصحيفة كل العرب).
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع