اقرؤوا في:
كنت بباب المسجد، وكان حديث السيد الإمام إليّ هذه الليلة غريبًا ومثيرًا. لقد ذكر أنّ حشودًا من القطط السوداء المتوحشة هاجمت الناحية، وأنها تقضي على كلّ ما تصادفه في طريقها. ولذلك فإن الناس لم يقدموا على صلاة العشاء هذه الليلة، لأنهم يعلمون أنها أصبحت في هذا الحي سيّدة الظلام لقد نشرت الرعب واستبدت بقلوب السكان. كان كلامه عجيبا، لكنه لم يطل فقد بادرني الرجل بدعاء للصلاة.
كنا ثلاثة أشخاص نصلّي في خشوع وسكون. الإمام في محرابه، ثم أنا وصديقي سعيد من ورائه. وكنت ثابتًا أشعر بسكينة واطمئنان، وكأنّي نسيت الحديث المفزع الذي سمعته منه. ثم بعد أن فرغنا من الصلاة، سألني الإمام أن أحمله في سيارتي إلى بيته، وافقت ورحبت بالطلب، ثم زدت فدعوت صديقي سعيد إلى المبيت معي الليلة في بيتي. كان الإمام يحمل عصا كبيرة، لم أسأله عن السر في ذلك، فقد بدأت أشك في سلامة عقله. لكن الأمر تغير حين ركبنا السيارة، فقد عاد الإمام إلى حديثه، فالتفت إلى صديقي ثم قلت: «ما رأيك في هذا يا سعيد؟» فأجابني وإمارات الجدّ بادية على محياه: «أجل أنا كذلك سمعت بهذا. فقد أخبرني أحد الجيران أن مجموعة من القطط، قد تعرضت للسيدة نفيسة. المرأة الحامل وهي عائدة من بيت أبويها بالحومة المجاورة. ثم حامت بها وجعلت تداعب ثوبها الطويل. فجمدت المسكينة في مكانها لا تدري ما الحيلة، ولم تجد غير الصراخ.. فصرخت بكل قواها، فأثار ذلك جنون القطط فانقضت عليها. ومن حسن حظّ المرأة أن السيد دانيال.. القناص الفرنسي، خرج لنجدتها وقد حمل بندقيته وصحبته كلابه الثلاثة التي ارتمت على القطط في صراع مروع. استطاع الرجل بعد معاناة انتشال السيدة نفيسة من بين مخالب الوحوش. وحملها إلى بيته، حملها وهي بين الموت والحياة. ثم عاد لنجدة كلابه، غير أنه ذعر حين رآها أسلمت للهررة تنال منها كيف تشاء».
لم يُكمل الصديق كلامه، فقد قاطعه الإمام قائلا: «نعم يا بني. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد سمعت أنا أيضا بهذا وبغيره..» ثم قطع رده هذا وقال «هنا.. كفى.. شكرًا» ونزل بعد أن ألقى التحية والسلام. استأنفنا نحن مسيرتنا نحو المنزل نتبادل ذلك الحديث المهول والمثير. وفجأة سمعنا أصواتا عالية.. نعم، إنها هي، وهذا مواؤها يدوي تكاد الآذان تنفجر له، ثم هاهي تعدو حولنا. أشعلت الأضواء الكاشفة، وضغطت على المنبه، وحاولت أن أتجنبها لكنها كانت تتقاذف كالأمواج نحونا. لقد أصبنا بعضها، واختلط المواء بالصراخ. وامتلأت قلوبنا رعبا وخوفا، فشعرنا أن عتمة الليل تشتد، وكأنما انطفأ القمر أو انكسف. إلهي.. يا إلهي كيف الخروج كيف؟
أوقفتُ السيارة أمام باب العمارة. استجمعت شجاعتي ثم قرّرتُ أن أنزل مهما كان الثمن. فتحتُ الباب. وضعْت قدمي على الرّصيف. حاولت أن أضع القدم الثاني، فوجدتها ترتمي عليّ مرّة واحدة وبكل قوة تدفعها رغبة عارمة إلى الثأر. كانت وحوشًا مسْعورة. سقطتُ على الأرض وأنا أضربُ بيديّ ورجلي في كل مكان. وكان سعيد يضغط دون انقطاع على الجرس المنبّه.. وكان الجيران يضربون بعصيهم وحبالهم في كل اتجاه.. وكنت أصيح: الماء!! الماء!! رشوا القطط المصابة بالسعار بالماء فانه يقضي على اهتياجها. الماء!! الماء!! ثم وجدتني مغمورًا به بعد ثوان. كان ينهمر من الأعلى والجوانب.. وكانت الهررة تتساقط. استطعت الإفلات وحملت بالأذرع إلى البيت صاحبي سعيد وأحد الجيران. أصررتُ أن أتوجه إلى الشرفة. كان الجو رطبًا وباردًا، وكانت القطط تتقافز من الغيظ والألم. شعرتُ بقطرات المطر تنزل من السماء. شيئًا فشيئًا بدأتْ تشتدّ وبدأ الصراخ يرتفع. ثم انتشر الماء والموتُ بالأسفل.. وتراكمتِ الجُثثُ. قررت أن أنزل لأثأر. قفزت إلى السلّم. نزلت ثمّ وجدْتني أمام مقبرة مكشوفة مهولة من الجثث الهامدة. صمّمتُ أن أمشي فوقها. الخطوة الأولى.. الخطوة الثانية، صرخة، انتفاضة.. القطط السوداءُ تتحرّك تنتفضُ تحتَ قدمي…
صرخْتُ. فتحت عينيّ. وجدتني في غرفتي وحدي..
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع