اقرؤوا في:
عندما ننظر إلى الأشياء من الخارج، يبدو كلّ شيء أشبه بلعبة تركيبيّة ملوّنة. فسيفساءُ من ملصقات الأسعار تغطّي المنتجات في السوبرماركت: أقدمها باللون الأبيض، تلك الموجودة منذ أسبوعين باللون الأصفر، والجديدة باللون الأحمر. تحتوي المنتجات المعلبة أيضًا على ملصقات خضراء عمرها شهران، لكن سعر شهرَين سابقين صارَ في عداد ما قبل التاريخ.
ترتفع أجرة الحافلات كل بضعة أشهر. في اليوم الذي ترتفع فيه الأجرة، تحصل رايسا على أربع تذاكر من السائق- اثنتين لها، واثنتين لِجينيا. التذاكر التي تناولها رايسا لجينيا- واحدة عليها السعر القديم، والأخرى مع السعر الإضافي- تحشوها الأخيرة في جيب معطفها.
تظل الأمور على هذه الحال مدّة أسبوع-أسبوعين، إلى أن تُطبع تذاكر بالسعر الجديد، ورداً على “المرّتين” المختصرتين لرايسا يعطيها السائق تذكرتين. لكنّ جينيا، بعد عامين من الإقامة في إسرائيل، صارت تعرف أنّ ذلك الأمر لن يطول- لأن الأسعار سوف ترتفع مرة أخرى قريبا، وستحصل رايسا على أربع تذاكر مرة أخرى وتعطيها اثنتين. سوف تسأل رايسا عن سعر الإضافة، لأنها لم تعد قادرة على قراءة الأسعار على التذاكر. سوف تعيد النقود إلى رايسا بسهولة- فهي تميّز العملات النقديّة وفقَ حجمها.
إن سباق التذاكر التي تلاحق الأسعار، والأسعار التي تهرب منها، يذكّر هو أيضًا بلعبة. هذا بنظرة خارجية.
تكمن المشكلة مع الجانب الخارجيّ في كَون جينيا بالكاد تراه. كانت تعاني من كاتاراكت في كلتا العينين. ليسَ متقدّمًا، شرح الطبيب بالعبريّة وترجمت ابنتها، يمكن إجراء جراحة فقط بعد مرور عامَين. حاليًا، امشِ بحذر، النظارات سوف تحسّن الوضع بنسبة ضئيلة.
النظارات بالتأكيد تحسّن الوضع بنسبة ضئيلة. تمشي جينيا بحذر. كذلك، تغسل الأرضيات والمراحيض بحذر في جميع الطوابق- 12 إلى 14؛ تغسلها بحذر ولكن بشكل جيد، لا أحد يشتكي. في نهاية اليوم، تلتقي برايسا (تنظف الطوابق 15-17). تبتسم رايسا إليها ابتسامة مناصرة. راحتا يديها على الوركين، وذراعاها عبارة عن قوسين ملحقين بجسدها مثل مقابض السماور.
“اختاري جانبًا”، تقول.
تُقحم جينيا يدها في أحد القوسين. الدرج الذي ينزل من مبنى أي.بي.إم إلى الشارع عبارة عن سلسلة واحدة وحادّة، وتهبطان عبره متشابكتَي الأذرع. “أنغاجيه”، كما تقول رايسا.
تقطعان الشارع وتنتظران. عادةً ما تقلهما سيارة بافل الزرقاء وتوصلهما إلى الحي. لكن أحيانًا يعمل بافل حتى ساعة متأخرة، ثم تنضمّان إلى مجموعة من الأشخاص الذين ينتظرون الحافلة. إلى أن تصل الحافلة، تكون المجموعة قد كبرت بما يكفي ليتم شفطها إلى داخل الحافلة تحت ضغط عصبيّ. ينحشر آخر من ركبوا الحافلة في الداخل، وتعيقُ أكتافهم حركة الباب الأماميّ الذي ينغلق وراءهم بجهد، ويواصل السائق الذي يقود الحافلة، ثقب البطاقات وبيع التذاكر، ويصيح بين الحين والآخر: ” نحو المجموعة التي لا تزال تتطوّح عالقةً بينه وبين الباب: “من لم يدفع بعد؟”
كانت رايسا هي من أوضحت لجينيا ما صرخ به السائق. حزرت جينيا الأمر بنفسها، لكن رايسا تهوى الشرح، عندها أبدت جينيا تعبيراً يعني “أه، الآن أفهم”، وواصلت مع أفكارها. فكرت بينها وبين نفسها كم كانت متعبة، وكم كان السائق متعبًا بلا شكّ. فكّرت أنّه، في ظلّ هذا الازدحام، لم تكن لديه أي فكرة من دفع، فاستطاعت رايسا أن تدفع أجرةً عن شخص واحد كما استطاعت أن تدفع عن ثلاثة. فكّرت أنه كان عليه أن يحزر المتهربين من الدفع كما حزرت هي الدرجات وهي تهبط إلى الشارع.
يعمل فابل، ابن رايسا، في شركة تأمين في المبنى المجاور لمبنى آي بي إم، الذي يبدو مثل سفينة بيضاء، وقد نسيت جينيا اسمه. كانت رايسا قد أخبرتها بهذا الاسم منذ زمن طويل، وتذكرت أنه كان اسمًا سهلاً، لكن رايسا لفظته ببطء، مقطعًا تلوَ الآخر، كما لو كانت جينيا متخلفة، وشعرت جينيا فجأة بالإهانة لدرجة أنها نسيته على الفور. تقف المباني جنباً إلى جنب،
واحدًا مثل صاروخ جاهز للإطلاق، والآخر مثل سفينة تتهيأ للإبحار، كما لو أنها تستعدّ لنقلها إلى مكان آخر وهي تجاهد من أجل ابتكار مكان يمكنهم أن يأخذوها إليه.
أثناء ذلك، تقلّها الحافلة إلى منزلها، هي ورايسا التي فصلت بينهما مجموعة من الطالبات المتدافعات. تستمع جينيا إلى راديو السائق وتحاول تمييز المفردات، ولكنها تميّز فقط مفردة “سلام” و”لبنان” و”تضخم ماليّ” ومن جديد “لبنان” وعدّة مرّات “السيّد أريدور”.
تصل إلى المنزل.
ابنة جينيا، آنا، وصهرها وجينيا نفسها هم ثلاث حلقات في شيء أشبه بسلسلة غذائية حيث جينيا فيها هي الحلقة الأدنى. عندما يكون صهر جينيا عصبيًا، يصرخ على آنا فتنفعل آنا وتصرخ على جينيا. جينيا لا تصرخ على أحد. عندما تصل إلى المنزل تنظّف وتنشر الغسيل وتكوي. عندما يصل صهرها إلى المنزل، تتوارى جينيا في غرفتها أو تفرّ إلى رايسا.
“الحديقة الزرقاء” – حديقة ملاهي مرافقها زرقاء اللون- هي الشيء الوحيد الذي يفصل مبنى جينيا عن مبنى رايسا. تقطع جينيا الحديقة وتضغط على جرس المبنى.
فابل، ابن رايسا، والكنّة والحفيد، ورايسا نفسها هم سلسلة تمثل رايسا فيها الحلقة الأكثر عراقةً من حيث النّسب. لا تصرخ رايسا أبداً، ولكن الأثاث في المنزل قد تم اقتناؤه حسب ذوقها، ويتم طهي الوجبات وفقاً لتعليماتها، وسوف تلد زوجة ابنها طفلا آخر عندما تخبرها رايسا بذلك.
جينيا تحت حماية رايسا، لذا فإن مكانتها في هذا المنزل متينة. عندما تصل، تتوقف كنّة رايسا عن طي الغسيل، وتسألها عن نوع المربى الذي تريده مع الشاي، وتنتظر إجابتها بصبر. كل مساء تقدّم رايسا الشروح لجينيا. تستمع جينيا إليها، وتعابيرها تقول “نعم، الآن أفهم”، على الرغم من أنها لا تفهم حقا كيف يمكنها أن تجعل آنا تعزف عن الخوف من هجران زوجها لها، أو من الرد على صهرها بالنفي، إذ ليس فقط الأثرياء ينظّفون المراحيض بالماء بعد التبوّل، أو تعلّم العبريّة وهي لا تجيد قراءة حرف.
“تعلمي مثلي، سماعيًا”، تقول رايسا. لكن جينيا لا تستطيع ذلك. كانت تجيب أنها دائمًا امتلكت ذاكرة بصرية، والان، كيف ستقرأ مع تينك العينين.
كانت نبرة رايسا الواثقة قادرة على إثارة جينيا في فترات أفضل من هذه، لكن الفترات الجيدة صارت في عداد الماضي. رعاية رايسا فيها تعاطف متشرّب بالنوايا الحسنة، والتعاطف هو سلعة نادرة في حياة جينيا الراهنة. تحب زياراتها لرايسا.
في حياتها السابقة، لم تزاول جينيا عملا. كان زوجها يدير متجرًا منوعًا كبيرا وأعال الأسرة دون عناء. كانت أيامها وادعة. كبرت الفتاة، وكانت الخادمة تحضر مرتين في الأسبوع، وكرست جينيا نفسها لعملها الأثير- التصفح في ألبومات الفن. كانت معجبة بماغريت بشكل خاصّ. عندما تزوجت آنا وفارقت المنزل، أصبحت حياتها أكثر سهولة. مرت السنوات، كان الأحفاد قد تأخروا في المجيء إلى العالَم. كانت خيبة أمل كبيرة ونحاماه-دورتا إلى جانبها: ظل الرفاه والحياة المريحة من نصيب جينيا. في يومٍ، تلقت مكالمة من متجر زوجها. مات بسكتة قلبية.
كان زوج جينيا روسيًا. الآن، قال صهرها، لا شيء يربطهم أكثر بهذه البلاد المتخلفة. ترددت جينيا وابنتها. لم تعد جينيا شابة، وبدأ بصرها يضعف. لكن صهرها أوضح أنه سيسافر إلى إسرائيل، لذلك كان من الواضح أن آنا ستذهب أيضًا. لم يكن لدى جينيا خيار. انضمت إليهم.
ربما كان قرار العيش سوياً خاطئاً. كان بإمكانها أن تعيش لوحدها في شقة من غرفة واحدة، لكن عندها سيحصل ابنتها وصهرها على شقة من غرفتين، وقد أراد صهرها ثلاث غرف. الآن، يعيشون معا في شقة من ثلاث غرف، وفي كل مرة يتبعها صهرها إلى الحمام ، يصرخ قائلا لها أنهم ليسوا مليونيرات، وهي تنظر إلى وجه آنا المرتعب وتسكت. إنه يعمل في الصناعة الجويّة حتى وقت متأخر ويعود إلى المنزل مرهقًا، ولكن لديه طاقة لا تنضب لحساب المصروفات. كل ليلة، يسأل جينيا كيف عادت إلى المنزل. في الأيام التي كانت تعود فيها بالحافلة، عبس وجهه بشكل خاص، فها نفقة أخرى أمكن توفيرها لولا بافِل البخيل وساعات عمله الإضافية.
تدخل جينيا إلى غرفتها. التلفزيون في الصالة، لكنها هي نفسها ليست مرغوبة هناك، ليس لديها شك في ذلك. الراديو الوحيد في الشقة هو جزء من جهاز ستيريو موجود أيضًا في الصالة. راديو آخر- حتى لو كان صغيرا، لا تحتاج جينيا إلى جاهز– لا يتوفر لديهم كهذا، فهُم ليسوا مليونيرات. تطل نحو الخارج عبر النافذة.
“الحديقة الزرقاء” تشير نحوها “تعالي، مرّي من خلالي، دقّي على الجرس الداخليّ، سوف تستقبلك رايسا بحفاوة”. لكن جينيا كانت معها أمس، وأول أمس، وفي بداية الأسبوع. لا يمكن للمرء أن يحطّ هكذا على الناس كل يوم.
تفتح جينيا كتابًا وتنظر إلى الخطوط الرمادية التي كانت ذات مرة عبارة عن أسطر من الحروف. تقرّب إلى الكتاب عدسة مكبرة، وكل خط يصبح رفاصًا أسود سقطت بين تعرجاته صدوع ضباب أبيض. تغلق الكتاب. الألبومات لم تعد موجودة، بقي ماغريت في روسيا. تخلد إلى النوم. في أحلامها، ترى جينيا بيضة بيضاء ضخمة عالقة في قفص. في بعض الأحيان تتحول البيضة إلى طير رمادي كبير يرفرف بين القضبان، ثم يبيضّ مرة أخرى ويصير بيضة.
في الصباحات تخرجان إلى العمل مع بافل. تجلس رايسا جواره وتشرح له طوال الطريق. من مكانها في المقعد الخلفي، ترى جينيا وجهه في المرآة. انهمر عليهم تعبير وجه لطيف يقول “نعم ، أفهم الآن”. تمرّ الشوارع عنها من وراء وشاح من الحرير الأبيض شبه الشفاف. عند إشارة المرور، يُسمع من السيارات القريبة أنغام الراديو. تصيخ جينيا السمع. من جديد “السيد أريدور”، “لبنان”، “التضخم المالي”. يتدفق بقية النص مثل الخطوط الرمادية في الكتاب: ضوضاء صامتة وغريبة لا تقول شيئًا.
الكتاراكت، الذي تسبب لجينيا بنوعٍ من العمى، حكم عليها أيضا بنوع من الصمم. تحاول تقسيم شريط النص إلى أجزاء، التعرف على المفردات، تخمينها أو تذكر معانيها. كانت رايسا قد أوضحت لها عدة مرات معنى مفردة أو أخرى، لكن دون جدوى. حتى عندما كانت فتاة، في دروس اللغة الإنجليزية في المدرسة، كانت قد تعلمت فقط من القراءة، وليس من الاستماع.
كما هو الحال في كل صباح، هذا الصباح أيضا تدير رايسا رأسها من وقت لآخر إلى المقعد الخلفي وتبتسم إلى جينيا. لكن هذه المرة تُصدر ضجيجًا من فمها:
“تعلمين يا جنتشيكا، أننا سننتقل من الشقة”.
“تنتقلون من الشقة؟ لماذا؟ إلى أين؟”
توضح رايسا- شقة أكبر، منطقة أفضل، حسنًا، مع ذلك، حولون أفضل من حيّهم.
تقول رايسا: “أمامنا فرصة جيدة، لقد قررنا بسرعة، وسوف ننتقل خلال شهر، ولكن لا تقلقي، سنظل نلتقي في العمل، وسوف تأتين إلي بعد العمل أيضا. تعالي كما لو كنت تسكنين في منزل مجاور، هل تسمعين؟!”
طوال الشهر، تسمع جينيا قصص التغليف التي ترويها رايسا. يصيبها نوع من الخدر. كانت دائماً انطوائية لكن العزلة في المنزل أغلقت عليها بالضبة والمفتاح. رايسا هي صديقتها الوحيدة، وهي أيضًا ما كانت لتعرفها لو لم تعملا معا واكتشفتا أنهما جارتان.
انتقال رايسا ضرب جينيا كضربة مطرقة ثقيلة. بالطبع، سيسعد رايسا أن تواصل استضافتها، لكن من سيسمح لـجينيا بالسفر إليها؟ صهرها، عندما سمع بخبر الانتقال، قام على الفور بحساب الزيادة المتوقعة في النفقات- فقد ضاع الآن السفر المجاني مع بافل! ألقى نحو جينيا نظرة عتابية، قذف بالقلم على الطاولة، وذكر المبلغ الذي ستكلفه سفراتها الآن.
أطلق حُكمه: “علينا أن نشتري لك تذكرة سفر شهرية، وبالكاد ستكفي”.
تتخيل جينيا المشهد الذي سيحدث إذا أنفقت المزيد من المال على العودة من منزل رايس، وتعرف أن حياتها الاجتماعية قد انتهت.
في هذه الأثناء، تجري رايسا تدريباتٍ استعدادًا لسفر جينيا المستقل في الحافلات.
“تذكرة واحدة فقط. لا تدعي السائق يخدعك في مسألة الفكّة، واحذري وأنت تصعدين الحافلة، فهناك حافلات بدرجتين وأخرى بثلاث!”
لا تشرحي لي، تفكر جينيا، فأنا بطلة في عد الدرجات.
“لن يخدعوني، فأنا أعرف العملات من حجمها” ، تقول لرايسا بشيء من الكبرياء المجروح.
في اليوم الأول بعد انتقال رايسا، بالضبط في أول الشهر، توقظ الساعة جينيا كالعادة في الساعة السادسة صباحا. لكن عندما تفتح عينيها، تكتشف أن الأباجورة المتدلية فوق رأسها تطير جانبًا بسرعة هائلة. وهكذا كان حال الصورة على الحائط، والنافذة أيضًا. طوال اليوم والأيام التالية، كان كل ما يحيطها يدور دون رحمة، وعندما استيقظت جينيا، انجرف جسدها
داخل الدوران وقُذف به بلا هوادة إلى الرحلة المجنونة. تتمسك بالحيطان حتى لا تسقط. تقرّ الطبيبة: فيروس. سوف يزول من تلقاء نفسه.
سوف يزول من تلقاء نفسه بعد عشرة أيام. صهرها في مأزق- هل ما زال الأمر يستحق شراء تذكرة شهرية؟ يحسب عدد السفرات المتبقية لها هذا الشهر– ذهابًا وإيابًا، ضرب عدد أيام العمل. “الأمر لا يستحق”، يتمتم.
في الصباح، ولأول مرة بدون رايسا، تنتظر الحافلة. عند وصولها كانت المحطة مأهولة بالمسافرين. صعدت الدرج، وكانت ملتصقة جدا بالمسافرين الذين تقدموها ويدفعها اولئك الذين من خلفها. تبدأ الحافلة بالتحرك. يخطف السائق البطاقات من الأيدي المجهولة، يثقبها، يبيع التذاكر، ويرجع الفكّة.
“من لم يدفع بعد؟” يصرخ كل بضع ثوان.
جينيا، كالعادة، تفكّر كم يصعب عليه أن يحزر من يتجنب الدفع. في هذا الاكتظاظ لن يعرف أحد ما إذا كنت قد دفعت عن ثلاثة أو لم تدفع على الإطلاق.
يتقدم الناس في الممر. تصعد جينيا وسيدة أخرى درجة أخرى، حقيبة الرجل من خلفها عالقة في ظهرها. لا توجد معها فكّة. تجهز عملة ورقية. خوف بارد من السفر لوحدها يتلبسها. الأضمن أن تفعل كل شيء بطريقة رايسا.
تمدّ جينيا العملة الورقية للسائق. كانت رايسا تقول شيئا دائما. كلمة معينة. يبدو عدد المحطات، فهذا ربّما هو ما يحدد السعر. حسنا، نعم، بالتأكيد، هي دائما تقول “مرتان”.
“مرتان”، تقول للسائق.
يسلمها السائق تذكرتين، ويدس في يدها الفكّة، يدق تذكرة السيدة بجانبها والرجل من خلفها وآخر غير مرئيّ على الدرج من الخلف.
تنظر جينيا إلى التذكرتين في حيرة. يبدو أنهم رفعوا الأسعار ثانيةً أثناء فترة مرضها. بكم يا ترى؟. لكن الأرقام الموجودة على التذكرتين تبدو مغبشة وغير واضحة. فقط عندما يخلو مقعدًا للجلوس عليه وتفحص الفكّة، تصيبها دهشة الاكتشاف: إما أن السائق أعاد إليها نقودًا أقل، أو أنّ السعر ارتفع السعر بنسبة 100٪. تجلس مترددة. عليها أن تتوجه إلى السائق، وتسأله. بالتاكيد! كيف بالضبط؟ بأية لغة؟ تنظر من حولها لترى إن كان هناك روسيًا يمكنه أن يترجم، فهي تعرف الروس من وجوههم. ها هنا رجل بقبعة صلبة ومستديرة، لا بدّ أن يكون روسيًا.
لكن الإحساس بالخجل طغى عليها. لا بد أن تكون مخطئة في شيء أساسي. يتواجد الواقع نصب عينيها غامضًا مثل شخصية ملثّمة. ربما قفز المؤشر بنسبة عشرات في المئة، والجميع يعرفون ذلك إلا هي. ربما كانت مخطئة في تحديد العملات. سيكون ذلك محرجا جدا. الرجل الذي لا بد أن يكون روسيًا ينظر إليها تحت حافة قبعته عندما تنزل من الحافلة.
تغسل الأرضيات في الطوابق 12 إلى 14 بعناية فائقة. ما زالت بقايا الدوخة داخلها، تهددها بالقذف بجسدها إلى الرخام اللامع.
رايسا لم تعد هنا. قبل يومين اتصلت بجينيا وأخبرتها أن جارتها الجديدة قد عرضت عليها عملا: رعاية والدتها العجوز.
شرحت رايسا الأمر بحماسة: “هذا أفضل لي يا جينيتشكا، العمل قريب ولا داعي للسفر إلى أي مكان، وعندما يعود الحفيد من المدرسة، سوف يجدني هنا، فوافقت. لقد ودّعت الجميع في العمل. لكننا سنواصل لقاءاتنا، ستأتين بعد العمل مع فابليك. في العودة، ستستقلين حافلة إلى لاغوارديا، الأمر بسيط، المحطة هنا. ومن هناك لن تكون مشكلة، كل خط يمر يصل إلى منزلك”.
الأمر بسيط، ولكن عندنا، كلّ شيء محسوب، هذا يعني حافلتين في مكان واحد. نحن لسنا مليونيرات، تردد صوت صهر جينيا في رأسها.
في الاستراحة، تراقب عاملات النظافة الأخريات اللواتي تجمعن في المطبخ الصغير. لا يتحدثن الروسية، ولا توجد واحدة منهن بإمكانها أن تخبرها ما إذا كانت أجرة الحافلة قد ارتفعت.
” رايسا يوك!” تقول لجينيا إحدى العاملات وتنفجر ضاحكة ضحكة نصف ودية ونصف شامتة.
” يوك” لا بدّ تعني “رحلت” باللغة العبرية، تفكّر جينيا وهي تنتظر الحافلة عائدة إلى المنزل. راتبها يودَع مباشرة في حسابها البنكي المشترك مع ابنتها وصهرها. في محفظتها نقود خصصها لها صهرها حتى نهاية الشهر لشراء البقالة وللسفريات. تسحب منها عملة أخرى.
“مرتان”، تقول للسائق من رأس حلقة مكتظة بالركاب، وتأمل أن يكون ما حدث صباحًا أمرًا عابرًا. لكنه يسلمها تذكرتين ويُرجع فكّة تشير إلى زيادة بنسبة 100 في المائة.
“هل ارتفع سعر ركوب الحافلات؟” تسأل ابنتها.
“من أين لي أن أعرف؟ سعر الخبز ارتفع. لا بدّ أن يكون سعر المواصلات قد ارتفع”، ترد.
تعمل ابنتها في فرع بنك الحيّ، بحيث أنها لا تسافر بالحافلة تقريبا. في الأمسيات القليلة التي تخرج فيها برفقة زوجها، يسافران بسيارتهما.
“من أين لي أن أعرف؟” تكرر آنا كلامها بحُزن.
حبيبتي آنييتشكا، تفكّر جينيا ، ما الذي أصبحت عليه. كنت مبتهجة كطائر وأنت طفلة.
لا تجرؤ على سؤال صهرها عن الأسعار.
الأيام بدون رايسا أكثر وحدة من ذي قبل. لا أحد يتحدث مع جينيا في العمل. فقط عاملة النظافة كثيرة الضحك تقول في كل مرة، ” رايسا يوك!” وتنفجر ضاحكة.
وفي المنزل أيضًا لا يتحدّثون كثيرًا. بالكاد تبادل صهرها وابنتها أطراف الحديث، فما بالكم بجينيا. تفرغ من أعمالها المنزلية وتدخل إلى غرفتها، متعبة، مخدرة، لم يعد يدهشها ارتفاع تكلفة السفر، تنظر في حنين إلى “الحديقة الزرقاء”.
في أحلامها ليلا، ترى إنسانًا يقضم طيرًا فاتن الريش، دمه يقطر على عنقه الأبيض.
في كلّ مرة تخرج جينيا من عملها وتنتظر الحافلة، يحوم فوقها مبنى أي.بي.إم بنيًا ضاربا إلى الحمرة، مليئًا بالنوافذ المربعة المزدحمة، مثل قرص عسل كبير أٌخرج من سياقه. يبدو المبنى المجاور الآن مثل لولب مفكوك من شرائط ورق أبيض. بنظرة فاحصة ترى أنه على شكل رأس عملاق.
في كل مرة تصل فيها الحافلة، تتردد جينيا هل تصعد أم تنتظر فابل. يمكن أن يصطحبها فابل إلى المكان المرجو ما حيث يسألونها أيّ نوع من المربى تريد مع الشاي، وتشرح لها رايسا أشياء كثيرة كلّ مساء، وتصغي إليها جينيا وعلى وجهها تعبير يقول “نعم، الآن فهمت”. تروي جينيا عن نظرة الخوف في عيني ابنتها عندما يمسكها صهرها، خصوصا في أيام البرد، وهي تغسل الأواني بالماء الساخن. تخبرها رايسا بأن تتوخى الحذر في نزولها الدرج. جينيا…
ولكنها تتذكر هنا حسابات صهرها الدقيقة، المبلغ الشهري المخصص لها الموشك على النفاذ، وتتخيّل الفضيحة التي ستقع إذا اكتشف أمر السفرات الفائضة.
تصعد الحافلة.
“مرتان”، تقول للسائق وتسافر إلى المنزل.
*القصة مأخوذة من مجموعة بيلا شاير “ضربة أولاد” الصادرة في “سفرياه حداشاه”، 2011، منشورات هكيبوتس هميؤوحاد، سلسلة كتب سيمان كريئاه
*نُشرت القصة لأول مرة في مجلة “كيشت هداشاه” عام 2004، وفي مختارات “قصص هكيشت هحداشاه” عام 2007.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع