اقرؤوا في:
عمر هذا الخل 99 سنة بالضبط، وإذا صحت حساباتي التي أجريتها على رزنامة المواعظ اليومية، فهذا العطر ُصنع قبل أسبوع واحد من وقوع الرأس الكونكريتية الضخمة لصدام حسين على الإسفلت، وكانت حكمة ذلك اليوم في الرزنامة: “حفيد الكنغر في جيبه وحفيد العطار في خشمه”. عمّال مصنع الدبس كانوا يفرّون إلى بيوتهم وعلى دراجاتهم علب قصدير فارغة لن تفيدهم في شيء، وستباع بعد أيام لأحد المشاتل وتصبح سندانة خصيبة لتربية القرنفل، أما الدبس فقد تركوه يجري في المعصرة، الواقع أن البصرة كلها كانت تعتصر ويسيل منها دبس من الهيجان والتوتر، وفي قائمة أفضل عشرة أشياء تعتصر الآن كان رأس الرئيس تحت أرجل المواطنين يأتي أولًا، بينما يحل دبس المصنع في آخر القائمة، وبين الرقم 1 و 10 أنوف كبيرة تعصرها الأرجل الغاضبة.
باعني إياه واحد من موظفي البنك الوطني للمخاط، شاب بدين يتكلم وهو يدعك ياقته دائماً ويلوي رقبته، توثقت علاقتي به وأصبح وكيلي الشخصي، فلم أعد بحاجة لمراجعة نصف سنوية للبنك، يزورنا دورياً في المنزل ويأخذ مدخراتنا من المخاط في علب معزولة حرارياً، ولأن عملية حلب مناخيرنا دقيقة وصارمة حسب الشروط والضوابط القانونية فهذا يعني أن سلمان داي باي يقضي ثلاث ساعات بيننا كل مرة، نعم فهذا هو اسمه، سلمان داي باي … يقول أن جده الكبير كان طفلاً لا يسمع ولا يتكلم، يقضي كل الظهيرات الحارّة على ضفاف دجلة، ودجلة هذا نهر صغير، يرجح بعض رجال الدين ورواة األساطير بأنه لم يكن موجوداً، وقد اخترعه الفسقة والفجار وشاربو عصير البطيخ، داي باي داي -إذا شئنا أن نستعمل الاسم الكامل- هو جد سلمان، اعتاد أن يمسك قداحتين في كلتي يديه، وفي جيوب دشداشته عشرات القداحات العاطلة، وأصابعه مثلومة ومحزّزة من القَدح في الهواء، بيني وبينكم جده صبي أهبل يتجاهله المارّة ثم صار مشهوراً جداً في ظرف أسابيع، حينما انتشر عنه مقطع قصير في الانترنت وهو ينطق لأول مرة في حضرة جنديين أمريكيين يرافقهما مترجم عراقي.
لقد صار آل داي باي داي من أشهر تجار البللد، ولديهم من ذريتهم مذيع مشهور ُيجري حوارات لاذعة مع السياسيين، وطبيبة نسائية ومخرج أغنيات شبابية، وممثل قصير القامة ظهر في أحد أفللم بيتر سبايك، ضمن مشهد من خمس ثوان، لاصطدام جيشين عظيمين في القرن الثالث قبل الميلاد، وهناك في قلب البصرة مسجد الداي باي داي المشهور، عمره سبعة عقود تقريباً، ولا أظنه سيمحى أو يتغير اسمه على الأقل، مسجد الداي باي داي صنم ثقيل في ذاكرة كل المواطنين هنا، يمكن ملاحظته كخلفية تلفزيونية ملتصقة بظهر أي شخصية إعلامية تستضيفها قناة البي بي سي من هنا، صممته معمارية بريطانية من أصول عراقية على شكل مستطيل تبزغ منه نخلتان مائلتان على بعضهما بمثابة المئذنتين، بحيث أن صوت آذان الصلاة منهما يأتي مزدوجاً ويكمل بعضه، ومن الواضح بأن مصممة الداي باي داي الشريف توّخت استعمال رموز الوحدة والتآلف والبقاء، وحالياً لم يعد يشير اسم عائلة سلمان إلى جده الصبي ذي القداحات مثلما يشير إلى المنارتين المتآخيتين، وإذا حدثنا وهو يمخط أنوفنا عن ِحرفيته العالية وبرجوازيته اللنيقة المرتبطة بدقته بالتمخط وتخزين سوائل الوجه فلا نقاطعه، ولا نجعله يستمتع بصوت الإنسان مسدود اللنف، ونعصيه دوماً ونهزأ بالجملة الدعائية التي يستعملها البنك الوطني للمخاط: (هل جربت أن تغني بأنفٍ مسدود؟ هل تدري كم سيسعدك ذلك وسيمطرك بالحظ والثروة؟!).
أحبَّ سلمان مديرته في البنك، سيدة في الخمسين، هي التي جعلت الناس ينتبهون إلى هزة رقبته المَرضية، وتلمسه لياخته، وزر قميصه الثاني، كلما استهل الكالم، لقد عيرته مرة بذلك وطردته من مكتبها، وقفتْ على عتبة الباب وانتظرت أن يفطن إليها الموظفون ويستعدون لسماعها، ومنذ ذلك اليوم تفاقمت حالة سلمان وصار يكرر ذلك دون قصد مرة وعمداً عشرات المرات، وأصبحت هذه سمة يشتهر بها، لم ترفضه المديرة فحسب بل سخرت منه وعيرته بكل شيء في وجهه ومظهره، وتعدت ذلك إلى تاريخ أسرته وبيعهم للعسل والخل ودقوس المرق المصنوع منزلياً، وتناست تاريخهم المجيد ومسجدهم العظيم .
هذا ما يسرّني به سلمان إذا مكثنا وحدنا في حديقتنا، فأنا ال أحب أن يستمع َّإلي أوالدي وأنا أتمخط وأفضّل أن يصغي إلي الجيران بدالً من أهلي، أريد أن يسمع جاري صوت أنفي، فلطالما أردت أن أقنعه بما ألصوات األنوف من دالئل على الصحة وخصوبة الرجل. وحدث مرة أن تأفف سلمان من رؤوس الجيران وهي تظهر وتختفي على الحيطان، أنا نفسي تعجبت، وزاد عجبي لمّا حزم سلمان حقائبه المعدنية وخرج.
أخرجت اليوم علبة الخل التي اشتريتها منه، سافر آخر الأولاد عبر قطار الفرات وهو يحذرني من العودة إلى لعق علبة الخل الزجاجية تلك، حلفت له بأني لن أجرب ذلك مرة أخرى، حلفت له وفي نفسي بأني سألطع منها ملعقة رز كبيرة حال خروجه من المنزل، وهذا ما حصل … وكم كان وداعه طويلًا ومملًا، كان يؤكد لي بأن عليّ تجريب قطار الفرات الجديد هذا، فهو سريع ويقذفه في خليج عمان بعد 14 دقيقة فقط، ويشعر راكبه فعلًا بأنه في حوض الفرات، وأن قرارات الحكومة في تحويل هذا الوادي الجاف إلى نفق كانت ذات جدوى حقاً، قال هذا وغادر وهو ينظر إلى سبابتي التي كانت تتحرك في الهواء، وتلعق الخل في أفكاري.
يجري رزم علب المخاط في أوعية من الألمنيوم، يُسفّرونه إلى الشمال حيث خليج البصرة، لا زال مشروع قلب البلاد، وتحويل جنوبها شمالًا قيد الإنشاء، سمعت أن العمال يستنزفون أكبر قدر من المخاط هناك وإن المشروع صار يستلزم وقتاً أكبر خارج الخطة، ما تحقق على الأرض هو قلب هذه الأرض، وبقي الشيء الصعب … كيف يخطو الناس نزولًا وفي بالهم أنهم يصعدون، وكيف تلتفت يميناً وانت تلتفت شمالًا، أعني أن المتعطل هو بعض الاستعدادات النفسية ويجري الآن خلال ورش نتدرب فيها على عكس اتجاهاتنا، والتأقلم مع الوجهة الجديدة، بعد ذلك تأتي المرحلة البايلوجية، وهذا أيسر قليلًا، خذ معدتك وجهازك التناسلي إلى طبيب العائلة، ثم اجعله يدلك وينظف بمرهماته الخاصة، وستلاحظ كيف صار جسدك كله يستدير ويستجيب لبوصلة جديدة، هذا ما أنت موعود به حسب المنشورات، وإعلانات الشوارع والمراحيض العامة.
بعد ذلك، سأكون مرتاحاً وأكف عن الشكاية للناس، سيفهم الجميع بأني عاشق الحكم القصيرة المكتوبة في الرزنامات، واحدٌ من سلسلة موظفين كانت مسؤوليتهم عبر عقود طويلة رسم اتجاهات القبلة في مسجد الداي باي داي، ألن اتجاهات القبلة مشمولة بخطة عكس االتجاهات أيضاً، هل تأخرت في قول هذا؟ قد لا يبدو مظهري مثل أجير بسيط لدى عائلة الداي باي داي، لكني أقبض راتبي من الحكومة فهذا المسجد تابع لدائرة اللوقاف، ستصبح مهمتي شاقة لمدة أسبوع لأني سأعكف وحدي على قلب الأسهم المؤدية للقبلة بعد انقلاب السجادة الترابية الكبيرة التي أعيش عليها أنا، و 200 مليون مواطن عراقي. مقارنة بأسراب من الأسماك في أحواض مرمرية، ستعاني كثيراً وهي تقلب الدورة التنفسية في خياشيمها، فمهمتي مسلية قليلًا، لقد مارست مثلها في طفولتي … كنت أراقب الحيطان التي تسوّر شوارع العاشقين وأنقب في جذوع الأشجار بحثاً عن أسهم المحبين، تلك المستقيمات المدببة التي يرسمونها في خلواتهم، أقطع رؤوسها وأعكسها، أما اللسماك والحمير المعتادة على بوصلة وهمية في أدمغتها فأدوارهم وأدوار أصحابهم أصعب بكثير.
هذه الليلة لن يأتي سلمان داي باي، ولن أثبت له استطاعتي على كرع قنينة خل معتق بأكملها، لن أعيّره أن جده الكبير الصبي استمع إلى خطبة ج. دبليو بوش الأولى، وتلك الخطبة كانت سبباً في تسيمته داي باي داي:
.Day by day Iraqi people passing the new period …etc
لن أعيّره بأن جده نطق أول ما نطق بعبارة داي باي داي على لسان الرئيس أمام مجندين يحبون الضحك على الصبيان السمان، فصار له اسم وصورة مشهورة من يومها، فكل هذا أصبح لازمة سخيفة مني تضايقه وتشل لسانه، قررت أن استسلم لروح المتقاعد من قطع رؤوس الأسهم، وأمنحه دورة تدريبية مجانية في كيفية ربط حذائه في ظل البوصلة الجديدة.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع