اقرؤوا في:
أجلب العالم إلى غرفتي.
لم ينتبه إليّ حين اتجهت فور دخولي من الباب الواسع، صوب مكتب مراقب الدوام، لتسجيل ساعة وصولي إلى العمل.
وبالحركة الخفيفة الناعمة المتأنيّة التي قمت بها وأنا أزيح شالي المرقّط عن عنقي، لأضعه بجواري، فوق حقيبة يدي البنية الكبيرة، حيث يمدّ الكتاب جزءاً من غلافه. مركّزة في سجل التوقيع، أدوّن توقيت وصولي، بالساعة والدقيقة: الثامنة وثلاث وعشرين دقيقة. إذ يدي اليمنى تمسك بقلم التوقيع، واليسرى تسترخي فوق الشال المرقّط والحقيبة، خشية انزلاقها، كما يحدث غالباً، واندلاق محتوياتها.
لأنني مغرمة بالقراءة في كل مكان، فإنني أحشر كتابي حين أدخل مكاناً ما، أو أتوقف عن القراءة لأني أغادر مكانا آخر. أنسى الحقيبة مفتوحة، وغالباً ما آتي بحركة عشوائية، فتندلق محتويات حقيبتي.
“سبع دقائق وأغلق الدفتر”.
قال مراقب الدوام.
نظرت إلى ساعة يدي وأجبته:
” ولكن سبع دقائق هي زمن أيضاً. في دقيقة واحدة ممكن أن يتغير وجه العالم”.
لم أتوقع أن يستطيع أحد قراءة عنوان الكتاب المدوّن على الكعب الفاصل بين دفتي الكتاب، والذي يبدو من داخل الحقيبة المفتوحة، إلا إذا كان دقيق النظر ويعرف الكتاب جيداً.
من هذه اللحظة، من حركة يدي تزيح الشال المرقّط (جلد الحيّة)، ويدي التي تداعب من دون انتباه، غلاف الرواية التي في حقيبتي، من هذه اللحظة، ستبدأ أحداث هذه الرواية.
سحبت شالي المرقّط بلطف، ودسسته داخل الحقيبة، وهبطتُ في المصعد.
كان يراقب أزرار المصعد. بعد نصف ساعة تقريباً، أخذ المصعد، وهبط به إلى المستودع، حيث توقف بي، وحيث أعمل.
منهمكة في تفريغ صناديق الخراطيم الجديدة التي وصلت المستودع ليلة البارحة في نهاية الدوام، ولم أتمكن من ترتيبها.
متسلقة السلّم الحديدي، أصعد وأهبط، لأرتب الخراطيم في الرف الثالث، سمعت صوت خطواته.
وقف أمامي بسيجارته، نظرت إليه وأنا أعلى السلم، وشعرت بدوار مفاجئ:
ـ التدخين ممنوع هنا، ألا تقرأ.
أشرت بإصبعي نحو لافتة كتب عليها: ممنوع التدخين، مواد قابلة للاشتعال.
كان المستودع محتشداً بالمواد المشتعلة، من بنزين وكيروسين. رمى سيجارته على الأرض ودهسها بحذائه.
قفزت على السلّم بحركة سريعة والتقطتُ عقب السيجارة، كاد السلّم يسقط فوقي:
-ما هذه الفوضى، الأرض نظيفة!
– هل نحن في مشفى؟
-قال ساخراً ثم أضاف:
-لكني لم أر أي منفضة
-قلت لك إن التدخين ممنوع!
وضعتُ عقب السيجارة في كيس القمامة، في الركن الصغير المفصول عن مكتبي بستارة سوداء، وعدت لأفتح صندوقاً جديداً من البضاعة وأرتّب محتوياته في الرفّ الثالث.
-أنت تعملين هنا؟
ـ-ماذا ترى؟
أجبته باقتضاب مستغربة وجوده أمامي. عادة لا يدخل هذا المكان سوى عمال نقل البضاعة من وإلى المستودع.
– وحدك؟
– أترى أحداً غيري؟
– لماذا تجيبين على السؤال بسؤال؟
– ولماذا تسأل بسذاجة؟
-ضايقتك؟
– لا أفهم ماذا تفعل هنا؟
-رأيتك فوق منذ قليل، أحببت أن أعرف طبيعة عملك.
– في المستودع، كما ترى، من أنت؟ ماذا تريد؟
– أيهمك؟
-أنت عندي، في مكان عملي، أنا مسؤولة عن هذه الأغراض.
-هل تتوقعين أن أسرقك؟
– لا ، لا تستطيع أن تفعل، كاميرات المراقبة مزروعة في كل مكان، تسجّل كل التفاصيل.
-أين يمكنني أن أدخّن؟
– نزلت هنا كي تدخن؟
– كلا، بل نزلت للتحدث إليك ، لكنك لا تكفين عن الحركة صعوداً وهبوطاً مع هذه الأكوام .
-هذه خراطيم. إنها بضاعة، وهذا عملي.
-ـ لا يهمني.
– لماذا تريد التحدث إليّ؟
– لا أعرف.
– هل تعرفني؟
-أريد أن أعرفك.
– أنت غريب.
– وأنتِ أيضاً.
– هل تظن أننا في مسرحية عبثية؟
– هل تحبين بيكيت؟
– كلا.
– تفضّلين أرنستو ساباتو.
هنا فقط، أمام هذه العبارة، توقفت عن الصعود والهبوط، ونظرت إليه. نظرت إليه للمرة الأولى، نظرت في عينيه، ولأول مرة في حياتي، أرتبكُ أمام عينيّ رجل.
– رأيت الكتاب؟
– كان داخل الحقيبة.
-لمحت العنوان؟
– من داخل الحقيبة.
-كان نصف الغلاف إلى الخارج.
-تعرف الكتاب؟
-أحب ساباتو كثيراً.
-ماذا تريد؟
-أن أدخّن.
– تصرّ على التدخين هنا؟
– نعم.
-ـ انظر( فتحت ذراعيّ مستعينة بهما) المكان مليء بالزيوت والشحوم القابلة للاشتعال.
– ألا يوجد ركن نستطيع أن ندخّن فيه بهدوء؟
– أنا لا أدخّن في العمل.
– أنا بحاجة إلى سيجارة.
نفضت يديّ من غبار الصناديق والخراطيم، مسحتهما بتنورتي، وطلبت منه اللحاق بي.
فتحت باباً يطلّ على فسحة مربّعة، تطل بدورها على أرض خالية.
-ـ هنا، تستطيع أن تدخن.
قبل أن أتركه وأدخل، أمسك بذراعي:
-ابقي معي.
-أشعر بالبرد هنا.
– لن أبقى وحدي.
– سأجلب معطفي.
دخلت أجلب المعطف، وأنا أشعر كما لو أنني أقوم بدور مسرحي. تنتابني هذه الحالة أحياناً. أشعر بأنني أفعل أشياء من خارج الواقع، أتصرف وكأنني نائمة، أو غائبة عني، لا أسيطر على سلوكي، وكأنني أستعير جسدي، بينما عقلي في مكان آخر. أتحدث إلى كائنات غير موجودة، أسمع أصواتاً تثرثر معي، تهمس لي. لا وقت أمامي الآن للتفكير، مضطرة للتصرف وفق ما يجب، وسأفكر لاحقاً، بمن يكون هذا الرجل، من أين أتى، وهل هو واقعي حقاً، هل أطفأ سيجارته في أرضية المخزن؟ عليّ أن أسرع إليه الآن، قبل أن تنتهي سيجارته، وأضطر لانتظاره، ليشعل واحدة أخرى، وينهيها من جديد.
-أنت زبون في هذه الشركة؟
-كلا
-تعمل في الشركة؟
-كلا.
-ماذا تفعل هنا إذن؟
– ظروف جاءت بي، أشرحها لك فيما بعد.
-أنت لا تعمل في السيارات إذن؟
-كلا، أنا محامٍ.
-مهنة جيدة.
-ربما.
-ألا تحبها؟
-ليس كثيراً، وأنت، أتحبين مهنتك هنا؟
-هذه ليست مهنتي!
-كيف؟
-إنه عمل لكسب العيش، وليس العمل الذي أحب.
-وما هو العمل الذي تحبين؟
للمرة الثانية، نظرت إليه، نظرت في عينيه، وللمرة الثانية ارتبكتُ أمام نظرته، أنا التي لم أرتبك يوماً أمام عينيّ رجل. مددت يدي نحوه مطالبة بسيجارة، فهذا هو الحديث الأغلى إلى روحي، الآن ، أحتاج سيجارة.
ناولني سيجارة دون استغراب، كأنه يتوقع كل ما أقوم به، كأنه يعرفني ـ أهذا جزء من النص المعدّ مسبقا؟ أشعل لي السيجارة، مقترباً مني، أنفاسه ترتطم بأنفاسي، تحوّل قلبي بغتة إلى عصفور يرتجف بين ضلوعي. قلت بثقة وقوة، وأنا أنفخ الدخان من صدري:
-الكتابة!
-تريدين أن تكتبي؟
-لو أُتيح لي أن أختار المهنة التي أحبها لاخترت الكتابة.
-أي نوع من الكتابة؟
-الرواية!
– لهذا تقرأين ساباتو؟
أخذت نفسا جديدا من السيجارة، اقتربت منه، أسندت رأسي إلى الجدار على مقربة منه، أكاد ألتصق به، كأنني أهمس له ، قلت:
-أشعر أحياناً وكأنني خارجة من كتاب.
لم يبتسم ولم تبدُ عليه أمارات الدهشة:
– يحدث هذا أحياناً.
-أيحدث لك؟
– كلا، ولكنني سمعت عن أشخاص حدث هذا معهم.
-أنا لم أسمع أو أقرأ عن هذا.
أطفأ سيجارته سحقاً في الجدار، متسائلاً برأسه، أين يستطيع أن يرميه؟ التقطت عقب السيجارة من بين إبهامه وسبابته، مست أصابعي أصابعه الأنيقة، وطوحتُ بالعقب في الهواء.
-أنا أشبه عقب السيجارة هذا.
-قلت للتو إنك خارجة من كتاب.العقب الذي رميته لا أهمية له.
-والشخص الخارج من الكتاب أيضاً، له أهمية؟
-بالتأكيد.
برمت شفتي ولم أرد.
-هل أستطيع دعوتك إلى فنجان قهوة في مكان ما؟
– لا أخرج مع الغرباء.
-ـ لكنني لست غريباً!
– كيف؟
-ألم نتحدث للتو؟
-أهذا يكفي؟
-يكفي لاحتساء فنجان قهوة.
-أشعر بالبرد، هل ندخل؟
دخلت. تركت معطفي عليّ. سألتني وأجبت بسرعة “لا، ليس خيالاً”، ثم وجدتني أفكر” لكن الوقت ضيق أمامي، ما دمت داخل الحدث، لن أستطيع أن أحدد ما إذا كان حقيقة أو خيالاً”.
-هه،هيا بنا؟
-لم أوافق.
-حسناً، اسمعي، لنفترض أنك كما تقولين، شخصية روائية، خرجت من كتاب، لماذا لا نناقش المسألة وفق منطق روائي؟
أعجبني كلامه، هززت رأسي متسائلة.
-نخرج معاً، نتناول القهوة في مكان ما، نثرثر، كما الآن، ثم تعودين إلى هنا، تماماً كما لو أنك خرجت من الرواية إلى الحياة، أو عدتِ من الحياة إلى الرواية.
لم أتمكن من مناقشة المسألة طويلاً برأسي، يتحدث كما أفكر، وفق منطقي ذاته، ما الفرق بين الكتاب والواقع ، بين القصة المدونة، والشفهية للتي نحياها، ومن يقرر إذا لم يكن ما نحياه هو رواية أيضاً؟ إنه يداعب أفكاري ذاتها.
-هل لديك نقود؟
-كثير.
– حسناً، أنا لا أملك المال، أخرج معك، شريطة أن تعيدني إلى هنا.
– موافق.
– اسبقني، سأتصل برئيسة المستودع لأستأذن منها، لدينا ساعة واحدة فقط.
-حسناً، ساعة روائية تكفي.
ضحكت وأضفت:
-عيش روائي لساعة من الزمن.
٭٭٭
لا أعتقد بأننا احتسينا فنجانين من القهوة، لأن حالة الارتباك العيشي والشك الوجودي أصبحت أكثر كثافة. بدأت أشعر بخفة وزني، كأنني ريشة أكاد ألامس الأرض، وانتابتني رغبة كبيرة في الضحك.
أصبح وجودي بحد ذاته غائماً أمامي. من أنا؟ ماذا يحصل؟
تنتابني هذه الحالة في لحظات معينة، سأشرحها لاحقاً. ولكن ما الذي شربته للتو حتى صرت ميالة للإحساس أنني كائن غير واقعي، وأن كل ما يحدث الآن لا يحدث بالفعل. وأنني ربما متُّ منذ سنوات، وأتخيلني شخصية روائية -لساباتو غالباً- صدقت عيشي وتمددت في وجودي.
ولأن الأحداث تمر حولي، وساباتو الذي أفترض أنه صنعني غير موجود أمامي، أو أنني لا أراه، بسبب غياب المؤلف، فأنا مضطرة لتحمل ثقل وجودي الحالي، مهما كانت درجة شكي به، إلا أنه، قد يكون حقيقياً، وعليّ أن أتعامل مع ما حولي ببعض المنطق الواقعي، لا الروائي.
إلا أنني، رغم محاولاتي عدم الضحك مثلاً، والتماسك كي لا أسقط، أو أُسقط معي شيئاً مما حولي، الطاولة، أو إبريق الماء، أو المزهرية. فإنني لم أتمكن من التخلص من حالة اللامبالاة التي منحت جسدي خفة غامضة.
لنفرض أنني كائن روائي، فأنا أتصرف إذن وفقاً لإرادة الكاتب أو الكاتبة، ولن تفلح كل جهودي في التحكم في سلوكي. وإن لم أكن كائناً افتراضياً، فإنني وحالتي ما هي عليه، ما من منفذ أمامي للتصرف بعقلانية. كل ما عليّ فعله، هو الحذر، كي لا أسقط على الأرض، وأُعرّض نفسي لسخرية الآخرين.
-ماذا شربنا؟
-كونياك.
-فقط؟
-نعم، أنتِ طلبت قهوة مع الكونياك.
-أحسّ ببعض الدوار.
-تريدين أن نغادر؟
-أين نذهب؟
-تدخلين الكتاب.
قال وهو ينهض مبتسماً، فانفجرت غاضبة:
-أتسخر مني؟
-أعتذر.
قالها على نحو جدّيّ وقاطع لا يقبل الجدل. أجبته ببعض العدوانية:
-لا تكررها ثانية.
نهضت خلفه دون أن يخطر ببالي سؤاله أين نذهب. كنت بحاجة للذهاب إلى مكان آخر، أي مكان، غير هذا المكان.
في المصعد ( لا أذكر أننا أخذنا المصعد ونحن قادمين)، أسندت رأسي إلى كتفه.
– أنت سكرانة؟
لم أجب.
توقف المصعد بنا، لفّ ذراعه خلف ظهري ليسندني، وأدخلني في سيارة ، قهقهت قائلة، وقد تجشأت رائحة الكونياك:
-أهذا باب الرواية؟
ابتسم بطريقة فاتنة، تنبهت إلى أنه وسيم للغاية. كنت قد شعرت بهذا من قبل، لكنني لم أتوقف عند الأمر، لم أنتبه، الآن أحسست كثيراً بوسامته، أهو السُّكر اللعين الذي يشوِّش مخيلتي، ألهذا ارتبكت وأنا أنظر في عينيه في المرة الأولى؟
-أين نذهب؟
-من فضلك، لا تطرح عليّ أسئلة منطقية، لست في حال تسمح لي بالتركيز، أنا الآن في مكان آخر.
أشعل صديقي سيجارة، انتبهت إلى أنني لا أعرف اسمه. رغبت في سؤاله عن اسمه، إلا أن هاتفه المحمول قطع رغبتي في السؤال.لا أعرف ماذا قال، فقد أجرى محادثة باللغة الإنجليزية التي لا أحبها، ولا أجيدها كثيراً، وحين أقفل الهاتف، كنت قد نسيت سؤالي.
جلست على أريكة مذهّبة. ثمة أشخاص كثيرون حولي، لا أعرف أين أنا، من جاء بي إلى هذا المكان، تركني، أو نسيني.
الأمر الذي خشيته دوماً، الخوف الذي رافقني مراراً، هو أن أضيّعني.
كيف أشرح هذا؟
لا أقصد الضياع الرمزي أو الفكري، بل المادي، أن لا أستطيع أن أذهب بي، أحملني، آخذني. أف، لا أستطيع وصف هذا، حين أجرب الكلام عنه، يتحول إلى شيء آخر.
ثمة حالات تنتاب أحدنا، لا تستطيع اللغة تقديمها، بل إن اللغة، تشوِّهها. أف. سأحاول أن أشرح كيف أضيّعني.
حين يحصل ازدحام في الطريق، أو يفقد الناس بعضهم الآخر، أُطمئِن نفسي:” أنا معي، لا شيء مخيف”، كوني معي، يطمئنني إلى أنني سأتصرف بطريقة سليمة وصحيحة. ولكني سرعان ما أتساءل: “ولكن من هذا الأنا الذي يرافقني وأثق به؟”. أعرف أن هذا كلام صعب الفهم، لأنه صعب الشرح، ربما يشعر به البعض، وبأوجه مختلفة، لكن التعبير عنه بالكلمات صعب.
المهم هو أنني معي، لا مع أحد آخر. ماذا يحدث مثلاً، لو كنت في طائرة، أو باص، أو باخرة، ووقع حادث كَوني معي، سأنقذني، ولكنني لو كنت في مكان آخر غيري، فاحتمال نجاتي أقل بكثير.
لا أعرف كيف أشرح هذا،لا يهم، لا يهم.
أين أنا الآن؟ وكيف عليّ أن أكون معي لأساعدني؟ يجب أن أنهض، أتحرك، أسمح لهذه الأنا التي تسكنني بفعل ما، بدلاً من التسمّر جالسة وكأنني دونها!
لمحته من بعيد، الوسيم الذي كلما رغبت في سؤاله عن اسمه، حدث أمر ما، ونسيت السؤال.
كان يراقص صبية جميلة للغاية. يحتضنها بشغف، يتبادل معها الحديث والضحك، يهمس في أذنها، تضحك بدلع. صبية حسناء إلى حد استفزّني.
نهضت متّجهة نحوه، إنه الشخص الوحيد الذي تعرفت إليه في هذا المكان الذي وجدتني فيه فجأة.
– كيف تجدين نفسك الآن؟
سألني، فهززت رأسي دون جواب، لأن الكلام في هذا الضجيج ، يعني أن عليّ الصراخ.أحسّ بالأمر وقال:
-هل نذهب؟
كما لو أنه أنقذني من مأزق، ابتسمت له، يبدو أنني لست في المكان الصحيح، ولكن ترى أين سيذهب بي؟
– سأجلب معطفي.
ما إن شممت هواء الشارع النقي، حتى تخففت من الضجيج الذي كان يحفر في رأسي.
– أين نذهب، سألته؟
نظر إلى الساعة :
-تأخر الوقت، أوصلك إلى المنزل؟
-كم الساعة؟
-التاسعة.
– مساءً؟
ضحك مقهقهاً.
– نعم، مساء.
-اعتدت على العودة في الثامنة مساء.
لا أعرف كيف تذكرت هذا بغتة؟
– هل من مشكلة؟
– لا أظن.
كما لو أنني كنت غارقة في الماء، أو أنني أرى الأشياء من خلف حاجز، بدأت تنقشع الرؤية في رأسي، وبدأت أفكاري تتوضح أمامي، وتذكرت أين أسكن، وأنني ربما لست شخصية روائية، لأن العمارة التي أوقف الشاب الوسيم سيارته أمام مدخلها، كانت تحمل الرقم 6 ، كما قلت له من قبل وأنا أدله على عنوان سكني.
– أنزل معك؟
– نعم، من فضلك.
ترجّلنا من السيارة، دخل معي باب العمارة. مدّ يده مصافحاً معتذراً إن كان قد سبب لي أيّ إزعاج.
تركت يده الممدودة نحوي وتشبثت بعنقه واشتبكت معه بقبلة طويلة.
كنت أشم رائحة النبيذ من شفتيه، ولكنه بدا كأنه لم يعانقني، ولم يقبلني، كما لو أنني كنت أمسك بشخص من فراغ.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع