اقرؤوا في:
أصل الحكاية. بدأت الحكاية صدفة. كان مساء يوم أحد ولم يكن العمل يومها شاقّا. فعدد يوم الإثنين أغلبه تحقيقات ولقاءات صحفيّة ومراسلات جهويّة مُعدّة سلفا وكثيرا ما أكتفي بمراقبة عامّة للإصلاحات التي قام بها زملاء لي آخرون قبل يوم أو يومين.
كانت البطولة على ما أذكر متوقّفة في ذاك الأحد لأسباب لا أستحضرها الآن، وحتّى الموادّ التي جعلت لتأثيث الملحق الرياضيّ ليوم الإثنين اقتصرت على تقييم للمباريات السابقة وبعض التحاليل الفنّيّة للجولات المنقضية مع إطلالات على البطولات الأوروبيّة وحوار مطوّل مع رئيس الجامعة التونسيّة لكرة القدم حول الجدل الذي كان دائرا على مشروع الانتقال إلى نظام الاحتراف أو نصف الهواية الذي كان يسمّى بنظام اللاّهواية ومشاكل كرة القدم التونسيّة وكيفيّة استعادة مجد الفريق الوطنيّ بعد انحدار البطولة التونسيّة والخيبات المتتالية في الوصول إلى كأس العالم إثر المشاركة الأسطوريّة في ملحمة الأرجنتين. أذكر ذلك جيّدا لأنني أحتفظ إلى اليوم بنسخة كاملة من الصحيفة. وكيف لا أحتفظ بها بعد الضجّة التي أثارها ذلك العدد؟
حضرت إلى مقرّ الجريدة وأنا أحمل خبرا حصريّا عن باغندا. كنت متأكّدا ألاّ صحيفة ستنشره قبلنا لأنّ الصحيفة تصدر يوم الاثنين بترخيص خاص من وزارة الإعلام. أما بقيّة صحف يوم الاثنين فهي صحف أسبوعيّة تكون جاهزة تقريبا منذ يوم السبت أو الأحد صباحا بحكم قلّة المطابع بل إنّ بعضها يطبع في مطبعة جريدتنا. وهب أنّ الخبر بلغ إلى علم الصحف المنافسة فقد كانت بحوزتي معلومات عن القضيّة أنفرد بها يستحيل على غيري الوصول إليها.
لمّا قدّمت إلى رئيس قسم الرياضة بالصحيفة نصّ الخبر الحصريّ ذهل وطلب من عمّ حسن، المشرف على الراقنين والمنسّق مع المصمّم والمطبعة، أن يصدر تعليماته إلى مصمّم الجريدة حتّى يضعه في أعلى الصفحة الأولى. فقد وجده مثلي خبرا مهمّا سننفرد به وسيجلب القرّاء من المغرمين بالرياضة ومن غير المغرمين بها أيضا. إلاّ أنّه طلب منّي التريّث بعض الوقت في انتظار ورود “تيلكس” من وكالة تونس إفريقيا للأنباء. لقد تصوّر أنّ خبرا مثل هذا ستعلم به الوكالة، ولا شكّ، حتى إن لم تعلم ببعض التفاصيل التي تحصّلت عليها حصريّا.
وهنا تحديدا تكمن الصدفة. فقد ذهبتُ صبيحة ذلك اليوم إلى مقهى “الحاج الشمنططّو” بباب الجديد كعادتي للقاء الأصدقاء والأحباب وأبناء الحيّ. فأنا، رغم ابتعادي عن باب الجديد منذ سنوات واستقراري بضاحية باردو، لم أقطع الصلة بالحيّ والأتراب. كانت زيارة أسبوعيّة أسلّم فيها على الحاج محمود والدي وأرى يسر أختي الصغرى وأُبقي حبل العلاقة قائما مع والدتي زينب وبقيّة أخواتي البنات. فقد اعتقدت أنّ بعض الاجتماعيّات، رغم أنني الحبّة السوداء في بيدر بيت الحاج محمود كما تقول والدتي، لا تمسّ من استقلاليّتي التي أعضّ عليها بالنواجذ ولا تؤثّر في حرّيّتي التي اخترتها طريقا لي بعيدا عن نفاق العائلة وضغوطها.
كان الجميع في المقهى يتحدّث عمّا وقع لباغندا نجمهم المحبوب واللاّعب الموهوب وابن الحيّ المجاور الذي يفتخرون به وإن كان ينتمي إلى “الاتحاد التونسيّ” في حين أنّ أغلب أبناء حيّ باب الجديد من عشّاق “النادي الإفريقيّ”. وباغندا نفسه من أحبّاء النادي الإفريقي مثل جلّ أبناء حيّ “معقل الزعيم”. وعلى كلّ حال لم يكن الاتحاد التونسيّ فريقا يستدعي منّا ما يستدعيه فريق حيّ باب سويقة “الترجّي الرياضيّ التونسيّ” من تنافس وصراع يبلغ حدّ الكراهية المتبادلة.
تأسّف الجميع لما وقع ووعد البعض بالثأر من باب الحميّة بين أبناء الأحياء المتجاورة. وبدأت التخمينات حول الفاعلين والدوافع والأسباب والمسبّبات. كنت أسمع معلومات متناقضة كلّ يدّعي أنّ روايته هي الصواب الذي لا يرقى إليه الشكّ. كلّ يتحدّث كما لو كان قد حضر الواقعة، يتّهم ويصف الاعتداء بدقّة متناهية ويفسّره تفسير العارف.
كنت أنصت إلى الجميع مذهولا أحاول أن أفهم فأقارن بين الروايات والحكايات أحاول أن أميّز نواة الحقيقة في ما يقال من المبالغات والمزايدات والادّعاءات. أستخرج الثابت والمتواتر وأسجّل في كنّشي الصغير الذي أصبحت أحمله معي في كلّ مكان الاختلافات وحتّى المبالغات. ولولا مخافة الإطالة لأثبتّها هنا بعد أن وجدتها ضمن ملفّ باغندا الذي حافظت عليه.
ولكنّ أهمّ معلومة تلقّيتها في مقهى “الحاج الشمنططّو” قدّمها لي بصفة عفويّة صديق دراسة وابن الحيّ الذي يشتغل في وزارة الشباب والرياضة بديوان السيّد الوزير مستشارا مكلّفا بالتكوين والبرامج في التعليم العالي الرياضي. لقد أخبرني أنّه دُعي يومها، وهو يوم راحة أسبوعيّة، لاجتماع طارئ مع الوزير لتدارس حادثة باغندا.
اعتبر الجميع في الوزارة، بناء على معلومات أمنيّة في ما يبدو، أنّ الأمر ليس مجرّد حادث عاديّ بل هو محاولة اغتيال بأتمّ معنى الكلمة. وأكثر ما يخشى هو أن تكون لهذه المحاولة أبعاد وتداعيات تتجاوز الحقل الرياضيّ. كان حديث المنصف الخزامي مليئا بالحيرة والتساؤلات نَقَله إليّ بعد الفراغ من الاجتماع الذي دام حوالي ثلاث ساعات خرج فيها الوزير عن طوره واتّهم الجميع بما في ذلك الرجل الأوّل في الاتحاد التونسيّ رئيسه الشابّ الناجح عماد بلخوجة. كان اجتماعا عاصفا لم يتورّع خلاله رئيس الجمعيّة النافذ من الردّ على الوزير بحدّة متهما إيّاه أمام الملإ بالخرف والهذيان مهدّدا بأن يرفع القضيّة إلى المجاهد الأكبر شخصيّا لأنّه لا يقبل التشكيك في ذمّته محتفظا بحقّه في محاسبته قضائيّا. ثمّ غادر الاجتماع غاضبا دون أن يستأذن من الوزير. ولم يكتف بذلك بل صفق باب قاعة الاجتماع بقوّة متمتما بكلام غير بيّن تماما، ولكن قد يُفهم منه سباب موجّه إلى الوزير وكلمات بذيئة نابية وقحة لا تليق بالمقام. وهذا ما أدخل الوزير في حالة هستيريّة فصرخ وعربد وخرج عن طوره ووقاره ليتلفّظ بألفاظ سوقيّة أمام الحضور وكان منهم رئيس الجامعة التونسيّة لكرة القدم ورئيس اللّجنة الوطنيّة الأولمبيّة التونسيّة وضابط أمنيّ كبير علاوة على عدد من المديرين العامين بالوزارة والمستشارين بديوان الوزير.
كنت قد علمت بهذا كلّه قبل التحاقي بمقرّ الجريدة. وحالما وصلت حرّرت الخبر وقدّمت الصيغة الأولى منه إلى رئيس قسم الرياضة سي عزّ الدين الجعايبي. أعجبه الخبر، سبقا صحفيّا وصياغةً، وخاطبني بفرنسيّته الصافية قائلا: “سيكون لك شأن عظيم في دنيا الصحافة يا ولدي. برافو. مدهش”. لكنّه فتح كنّشا متقادما وطلب منّي الاتصال بالكاتب العام لنادي الاتحاد التونسيّ وبرئيسيْ فريق باغندا والجامعة التونسيّة لكرة القدم وبمدرّبيْ باغندا في الفريق وفي المنتخب الوطنيّ لمزيد استجلاء الحقيقة من الكاتب العام وأخذ ردود فعل البقيّة على ما حدث.
لم يشأ أحد من هؤلاء أن يتكلّم. فالكاتب العام نفى الخبر جملة وتفصيلا. ورئيس الفريق علّق السمّاعة ما إن علم أنّني صحفيّ. ورئيس الجامعة ادّعى أنّه خالي الذهن من المسألة وأنكر علمه بما جرى رغم إصراري ومقارعتي له بحضوره اجتماعا مع وزير الرياضة. أمّا المدرّبان فامتنعا عن الحديث زاعمين أنّهما لا يملكان أيّ معلومات.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع