اقرؤوا في:
أنينُها..
جذبني إلى المكان، كنت مرهقًا، نظام العمل الجديد كان يمتصّنا إلى آخر قطرة حياة في شراييننا ولكنّ سوء الظن بما يكون عليه الموقف، “سبب الصرخات والأنين والتوجع المكتوم”، هو الذي أعاد لي شيئًا من الحياة وجعلني أندفع نحوها كالسّهم.
كانت وحدها، تحت نخلة، أمام دكان مهجور، حولها قاذوراتها، ولو أن الظلمة حالكة في الزقاق إلا أنها كانت تحت شعاع متسلل من لمبة بالشارع العام، مضاءة بالقدر الذي جعلني أرى وجهها الأغبر وتقلص عضلاته الصغيرة واحمرار عينيها وهما تضيقان وتتسعان في آلية مؤلمة مثيرة للإشفاق وكأنها في وحدتها وظلمتها تستشفق شياطين الظلمات، انزلقت نظرتي إلى موضع كفّيها، وكانت تضغط بهما بطناً منتفخة تحت أسمال بالية ، وعندما رأتني، صمتت فجأة وهي تحملق في وجهي بعينين ثابتتين ووجه بارد خال من أي تعبير كوجه مومياء فرعونية.. ثم قالت بكلّ براءة:
– هل تستطيع أن تولّدني..؟ الطفل سيشقّني.. سأموت اذا لم تفعل..!
قلت لها دون تفكير..
– لماذا لا تذهبين إلى المستشفى؟!
ابتسمت ابتسامة زيتية داكنة ثقيلة.
– لا أستطيع المشي، ولا املك أجرة التاكسي، أيضا لا يمكنني ان أدفع للمستشفى.. لا يوجد في الكون شيء من غير قروش.
أصدرت مواء باهتاً ثم غابت عن الوعي وهي تهذي كالسكرى. وأحترت فيما أفعل، وأنا لا املك غير خمسة جنيهات (للبص) العام للبيت، والساعة تشير الي العاشرة والنصف، بعد نصف الساعة فقط ميعاد حظر التجوال، ولأنني مرهق من جراء كنس السينما وغسلها لا أستطيع حملها على ظهري، ولو حملتها فلا يمكن ان تقبلها المستشفى ولا توجد مستشفى لله في هذا البلد.
– همس في نفسي صوتٌ لم أستطع أن أتبينه، أصوت ملاك هو أم صوت شيطان رجيم..؟
– ما لك أنت؟ ربّها الذي خلقها قادر على ان يجد لها مخرجًا.. أقدر على نفسك… نصف ساعة وحظر التجوال.. ألحق آخر بص… وغداً الصباح تعال لتجدها قد أنجبت صرصوراً كبيراً قابعاً قربها يستكشف العالم من حوله بقرني استشعاره وعينيه اللامعتين..
خطرت لي فكرة، وهي أن أحاول حملها إلى رصيف الشارع العام ربما وجدتها الدورية وتأخذها إلى الحبس وتحضر لها قابلة او طبيباً على نفقة الحكومة.
أخذنا عسسُ حظر التجوال معاً..
ربما كان الطبيب على شيء من الحق، فلقد كانت متسخة وقذرة رائحة افرازات المرض الجنسي الذي أصيبت به قوية نافذة ولا تحتمل اطلاقاً… لذا طلب الطبيب من عاملة النظافة ان تقوم بإزالة شعر عانتها، بقمله، صنانه وإفرازاته النتنة… وأن تغسل هذا الجزء جيدًا بالمياه الدافئة وصابون “الفنيك” وتضع مادة “الديتول” المطهِّرة عليه.
ثم مضى يستفرغ أمعاءه عند المغسلة لاعناً اليوم الذي درس فيه الطب وعِلم النساء والولادة.
قالت لي العاملة:
– ساعدني.. أرجوك
– قالت هي: أنا أموت
انتهرتها العاملة مغتاظة:
– موتي.. موتي أريحينا واستريحي
عندما باعدت عن ساقيها المتّسختين البنيّتين المنقطّتين بآثار الدمامل، وغابت في شبه اغماءة مستسلمة لآلام المخاض ولذة وجع الطلق.
حينما ظهرت مخالبه الأمامية، صغيرة ، بيضاء، طرية وناعمة، كنا أنا والعاملة مندهشين وغارقين في غيبوبة فنطازية لزجة موقعة في وعينا بموسيقى الرجي المتسربة إلينا من مكتب الصحة المجاور، صرير الجرذان هدير البحر، نعيق الغربان، السوداء، هفهفة شجرة النخيل الباسقة المتشامخة خلف شباك المكان، رعد مفاجئ، ثرثرة هلامية تنبعث من مسام الجدران وفراغات السُرر، قطع الاقمشة الثقيلة البيضاء، القطن الدامي المتناثر هنا وهناك.
فجأة أحسَسنا بالبرد ونحن نرى رأسه المستطيلة تعانق فراغ الحجرة، عليها شواربه السوداء الدقيقة غارقة في مخاط لزج شفيف وهلامي، قالت لي عاملة النظافة فيما بعد:
– كنت أحسّ بالأشياء تتوهج وكأنما حطّت عليها أقمار مضيئة صغيرة.
قلت:
– امتلأت حينها بكلامٍ غريب ثقيل غير مفهوم، كان يخنقني.
بطلق أخير قفز خارجاً رشيقاً نشطاً، وكأنما نغمات موسيقى الرجي كانت توقع جريان الدم في شرايينه البكر.
أثبّتُ في أقوالي لإدارة المباحث الجنائية ان التراتيل القرآنية، هديل الحمائم، أناشيد المحبة.. ما كانت تأتي من مصدر محدد ولا يمكن أن ندّعي في إمكان أي واحد منا أن يموسق جمود الزمن.
في تلك اللحظة تساقط رطب النخلة، غرد عندليب، هوت نجمة اضاءت مشارق الدنيا، عندها فتح عينين سوداوين متفائلتين، نفض عن نفسه المخاط، بهزات عنيفة متتالية نَبَح وذلك أمر مؤكد قبل أن يقفز عبر النافذة الي الرصيف.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع