اقرؤوا في:
يدخلُ الصّالة، يرمي حزمة المفاتيح؛ وتستقرّ الحزمة- التي تطلقُ رنينًا خفيفًا في الجو – في قَلب وعاء نُحاسيّ.
يجلب أيضًا هاتفه المحمول إلى الطاولة؛ ويتنهد أثناء ذلك، يهبط بثقل ويغوص في الأريكة. مرفقاه مغروزان في ركبتيه، تنحني رقبته للأسفل، يُسقط رأسه ويفرغ وجهه في راحتيه. يضغطها بشدة ويفرك مُقلتيه. إنّه متعب ومتوتر لدرجة أنه يشعر بأنه خاوٍ، مُخدّر، مفتّت من الداخل. يستمر على هذا النحو لمدة دقيقة أخرى، في شيء من الدقة، يسحق ويلوي اللحم، يهمس في الزّغب. كأنه يغسل وجهه في الهواء، يفركه. كما لو كان هناك قناعٌ عنيدٌ، لزجٌ جدًا، يحاول إزالته.
لم يحلق وجهه منذ يومين وكان زغبه حادًا وصلبًا وطويلاً على غير العادة. يشمّ في كفتي يديه بقايا روائح الصابون من القسم؛ السائل الورديّ الفوسفوريّ من المراحيض هناك. ومن أطراف أصابعه؛ السجائر، الحموضة المعدنية لملمس المفاتيح. يجب أن يستحم. عليه أن يأخذ القِدر ويذهب إلى المنزل لمدة تقارب ساعة. يستحمّ، يحلق؛ يجمع الأغراض التي طلبت منه إستر أن يحضرها من المنزل. وعند الثانية، حيث يُفترض وصول قطار أختها في الثانية والربع، سيتوجه إلى محطة القطار.
يأخذ الهاتف ويتصل بوالدته. لكنه يسمع النغمات تأتي من المطبخ بعد نصف ثانية من سماع الصفارة. لماذا اشترى لها هاتفًا خليويًا إذا كانت تتركه في المنزل؟ يفصل المكالمة. يُلقي بالجهاز في حضنه. ويعود بأطراف أصابعه إلى الشعيرات، لتلك التي في زوايا فمه. يُصدر صوت بحّة فيها مرة أخرى، بجدية، عكس اتجاه النمو.
الحكة الأولى، تبدأ من هنا، من أقصى أطراف الشفاه؛ بعد ثمان أو تسع ساعات من الحلاقة. خلال ساعتين يزحف الإحساس تحت عظام الوجنة، ويتفتح أيضًا في فتحات المنخرين. بعد أربع ساعات، يبدأ في حك رقبته. إلى أن يغادر المكتب، يكسو الزّغب وجهه آخر النهار؛ الظل الرمادي للمساء. تقول إستر أن ذلك يثير الغريزة، لكنّه لا يطيقه. يكره الشعور الشائك، الذي تشوبه شائبة. يقصد الحالة التي يصبح فيها وجهه قاتمًا وكَدرًا عندما لا يحلق. إذا كانا، بعد عودتهما إلى المنزل، يقصدان الخروج أو مقابلة أصدقاء، فسوف يحلق في المساء أيضًا. يشعر براحة أكبر عندما يحلق، وأكثر ثقة بنفسه، كما لو كان شخصًا جديدًا خرج للتو من الحمام، جديدًا تمامًا.
الأمر ذاته حدث في الجيش أيضًا، فقط عندما توفي والده، في منتصف عامه الثاني في الجامعة، ترك زغب وجهه يطول كثيرا. لا يزال يتذكر أثر الذعر الذي انتابه في نهاية أيّام الحداد السبعة، عندما خرج من الحمام يقطر ماءً واقترب من المرآة فوق الحوض، وكيف ذعر هناك للحظة، كما لو أن رجلاً غريبًا ظهر أمامه، شخصًا تسلّل من خلفه. في بداية الحداد، غطّت أمّه التلفزيون وجميع المرايا بالشراشف. وقد خلعت من المسمار. الآن نشف بمؤخرة ذراعه ألسنة البخار، ورأى نفسه للمرّة الأولى منذ أسبوع من خلال الضباب المنتشر على المرآة، هذا الأكثر دقةً.
كان ذقنه قصيرًا وسميكًا. كثًا وأسود مثل شعر الرأس، ولكنه مجعّدٌ أكثر، مجعدٌ مثل شعر العانة الذي سالَ بين ساقيه. والجذور قوية، سوداء كالفحم. نظر إلى المرآة وحدق فيها بدهشة. تجمد قضيبه من برودة الحوض. عن قرب، مع الذقن المربّى والعينين الحمراوين الممزّقتين وهما تنظران إلى المرآة، بدا لنفسه مجنونًا – قلّب وجهه من جانب إلى آخر بشكل مثير للريبة- مثل مريض نفسيّ خطير في فيلم سينمائيّ. شخصيّة سيتبين لاحقًا ضمن الحبكة أنها عنيفة جدًا.
سقطت قطرات الماء من ثقوب أذنيه. رآها وشعر بها، باردة، تنزلق بسرعة على شعر صدره. وتتكوم في السرة. وأدخل شفرة جديدة في شريحة السكين، ودهن الرغوة من الأسفل إلى الأعلى؛ غاسلاً إيّاه من وقت لآخر في صنبور الماء الساكن. تتجمع جذوع حادة مثل رقائق الحديد حول فتحة الحوض. تئز الشفرة، تهمس، تقشر وتصقل، كما لو كانت تنحت بروز عظامه من جديد. شاملة ودقيقة وطويلة البال وكأنها تقمع طبيعة ثانية عدوانية، وهو أمر مخفي دائمًا فيه. أخذ وجهه يتعرى، قطعة قطعة – خطير، متوتّر، يشعّ جديّةً. أتى برأسه إلى فوهة الصنبور. وعاد إلى مستوى المرآة، يقطر ماءً.
تحت الذقن كان يلبسُ وجه والده الشاب. كان يملك جسد أمه الضخم، وملامح والده القاتمة كما لو أنهم أخذوا وجه عريس مذهول، ضامر إلى حدّ مدهش، من صورة زفافهما في الصّالة، ولحموه في جسد العروس الثقيل، الأطول منه بشبر. شكل العينين، الأنف المعوج، الذقن المدبب، الفكان الكبيران-وجه والده ينظر إليه من المرآة، من خلال ضباب البخار، كما لو كان يقف هناك ويراقبه.
عُثر عليه ميتًا في متجره الصغير في جنوب تل أبيب. كان مجمدًا في نفس الوضعية التي كان عليها لأكثر من ستة وعشرين عامًا؛ منذ أن قدم إلى البلاد واشترى الحانوت بخلو. وجدته إحدى الزبونات التي جاءت في منتصف النهار، قرب الطاولة، وسط أكوام من السجاد، ورأسه يتدلى على صدره، وما زال كوب الشاي أمامه فاتراً. بعد دقائق قليلة من استدعاء الشرطة، وصل طاقم الإنقاذ إلى الموقع وأقر موته. أبلغوهم بعد ذلك أنها كانت سكتة قلبية.
صيفًا، وخلال العطلة الصيفية، كان إيتان يرافقه من وقت لآخر. كان يسافر صحبته بالحافلة إلى تل أبيب ويقضي يومه معه في المتجر الهادئ، المعتم، المغمور بالرائحة الثقيلة للسجاد. يخلع صندله ويقفز حافي القدمين من كومة إلى كومة. يمرّ عبر المساحات الضيقة المظلمة في الجزء الخلفي من الحانوت؛ بين البكرات العالية المسنودة على الجدران عند المدخل. ويعود ويصعد إلى أعلى الأكوام الشاهقة هناك ويتسلق إلى القمة، أعلى قمة، والتي تطل على كل الفضاء؛ يمد يده ويكاد يلمس السقف.
جلس والده وراء مكتب قديم ونظر إلى الخارج. كان يجلس هناك على الدوام ويتأمل الشارع المزدحم، بصمت، بدا أنّ صوت حركته المكتومة التي امتصها السجاد تأتي من مسافة بعيدة. كرسيان منخفضان، لا يتشابهان، انتظرا معه الزبائن بترقب ناعس. ومروحة السقف التي كانت تحلق هناك فوق رأسه، كانت تدور ببطء وتدوّخ بشفراتها المتفحمة قطعًا من الخيوط وبيوت العنكبوت القديمة، تخلطُ الهواء الثقيل، المنهار من الحرارة؛ الرطوبة الباردة التي كانت دائمًا هناك، حتى عندما كان كلّ شيء يغلي في الخارج، كما لو أن الطقس في متجره كان مختلفًا أيضًا، في منفى ما.
كان من النّوع السّكوت، الكئيب، المنغلق على ذاته. يقضي معظم ساعات لنهار، من التاسعة صباحاً حتى إنزاله الستار الحديدي واقفاله في الساعة السابعة مساءً، كان يفعل ذلك بنفسه، بشرود أجوف. بِغَلْي وسكب وخلط أكواب لا حصر لها من الشاي. بقراءة صامتة للمزامير. بالاستماع إلى جهازه الراديو المحطم، الملفوف بشريط لاصق، الذي كان يئزّ طوال الوقت بمحطة “ريشت ب”. عندما كان يمرّ أحد أصحاب المتاجر القريبة من المدخل ، كان يومئ برأسه قليلاً؛ لم يبتسم قط. كان تاجرًا سيئًا. رجلاً وحيدًا، منغلقًا، غير محبوب. في بعض الأحيان كان يجلس لوحده لعدة أيام، وخاصة في أشهر الصيف الملتهبة، دون أن يتخطى زبون واحد العتبة. يحدق في السيارات المارة في الشارع.
وعندما يدخل شخص ما في نهاية الأمر، كان يتصرف كما لو أنهم يزعجونه. يقوم على مضضٍ ويخدم الأشخاص بتردد، كما لو كان مشوشًا، يجيب على الأسئلة جزئيًا. يفرش السجاد أمامهم ويعرض النماذج، ويعاودُ لفّها بشكل طقسي. في الوقت نفسه كان يبدو أن لديه اهتمامًا آخر، أمرًا أكثر أهمية، يصرف انتباهه دائمًا.
لغته العبرية. عبريته المسحوقة، الصعبة. العبرية المرتبكة، التي تتصارع مع فارسيّة الأفكار. لهجته ثقيلة. نظرته ترتطم بشكل غير مريح وتتجول على الأرضية. الانتظار القصير، الصارم يليه الإعلان عن السعر بعينين مغمضتين. لغة الجسد المؤدبة، المؤدبة بما يفيض عن الحاجة، لغة جسده البعيدة. الأدب العالي الذي كان يؤدي به إلى التقهقر، إلى الوقوف جانبًا بصبر، وعدم التدخل حتى يُطرح سؤال آخر. وأخيرًا، بشيء من التسليم، يحني رأسه بتواضع، المستسلم هو الآخر، وهو يرافق زبائنه إلى الخارج.
بعد فترة طويلة من خلو المحل، ظل يقف في المدخل. رأسه بمستوى الميزوزاه، كتفاه معقوفان، راحتاه ترسوان في العصعص؛ تحرّكان الواحدة الأخرى ببطء. ثم، وبخطوات محسوبة ، يعود إلى الداخل ويختفى في الجزء الخلفي من المتجر.
عندما عاد من هناك، نشر أوراق صحيفة على المائدة، ووضع طبقين مبللين، شوكتين كان قد غسلهما، وعلبًا بلاستيكية ساعة الغداء الذي جلبوه معهم من المنزل.
إيتان؟
صوته الطريّ، المشبع، المرتعش: كوجا إيتان، أين أنت يا إيتان؟
عيناه القاتمتان الحزينتان اللتان تتنقلان بحرج من كومة لكومة. الترقب المتوتر، المتزايد، بأن ينظر نحو الأعلى. التوق الشقيّ، الذي يضرب صدره، ترقبا للحظة التي سيراه هنا، سيراه أخيراً، مستلقياً هنا على بطنه أعلى الكومة العالية، مخبئًا وجهه بذراعه.
قم يا إيتان، قم وبيا بوخور-
من بعدها كانا يجلسان إلى المائدة مقابل بعضهما البعض، ويتناولان الطعام. يأكلان كفت الدجاج بصلصة البندورة، مكعبات البطاطا. صمته، نظراته الصامتة، يحدق في الطبق، في مدخل المتجر. ليس صمتًا صاخبًا، محمّلا بالتوتر، يحمل بعض التوقعات. صمت متواصل، متصالح مع نفسه. صمت خارق للطبيعة. صمت ليس بحاجة لأن يَسمع أو يُسمع. صمت مرهق ومزعج، صمت يجعلك ترغب في الصراخ.
إستر– يصاب برجفة – والطفل. كان تذكّره لوالده قد أقصاهما عن أفكاره. لبضع دقائق، خفف من ضغطه للحظات- النزيف وآلام الظهر الذي عانت منهما إستر. آلام المخاض المخيفة، المبكرة للغاية، التي أصابتها فجأة في بداية الأسبوع السابع والعشرين؛ الحقن والتحاليل. والسديم الذي يحوم هناك في الفقاعة المظلمة على شاشة الأولترا ساوند، النبض السريع لدقات القلب الصغير، المرعوب، الملحاح، وها هو الخوف يعود ويخترق قلبه. يستعيده ويحتضنه مرة أخرى، مثل ضرس عاد إليه الألم.
يسرح في أفكاره ويقف هناك في غرفتها، جوار السرير المرتفع، ينزلق بروحه على جسدها تحت الغطاء، على وجهها المتورم، المرهق من الحمل، على شعرها المتعرق على الوسادة، ليتنفس مرة أخرى وهو يتنهد، يلهث بكل قوة. يسترق النظر إلى شاشة الهاتف.
يشاهد الساعة. كانت نائمة عندما غادر، الثانية عشر وعشرون دقيقة- بالتأكيد لا تزال نائمة. وعندما يتذكر أمه التي لا تأتي، يتذكر القدر الذي حضر في نهاية الأمر ليأخذه، وعيناه تتوسل بصمت نحو الباب، أووف أين هي؟ يرتخي كتفاه في هذه الأثناء ويركن مرفقه إلى ذراع الأريكة، يلوي كفه وجنته؛ سوف ينتظرها لمدة عشر دقائق أخرى. إذا لم تصل حتى الثانية عشرة والنصف، فسوف يغادر.
أمامه على الحائط ورق تابيت ضخم لشلال. منذ أن كان طفلا وهذا التابيت هنا، يغطي الجدار بأكمله، من الأرض إلى السقف. يمكن رؤية مصب نهر ما، ربما في مكان ما في أوروبا. شلال مجهول تستعر مياهه غضبًا ورغوة، مواصلةً الاندفاع. كصورة لمنظر طبيعي، فرضًا، في الجزء الخلفي من بطاقة بريدية، فإنها قد تكون صورة جميلة. اعتذر لإستر قبل أن يحضرها إلى هنا لأول مرة، ليعرّفها على والديه. “لكن هكذا؟” واصل عندما عادا إلى السيارة وضحكت. بهذا المعدّل الضّخم، الذي يكاد يماثل حجم المنظر نفسه- “في وسط هذه الصالة الحقيرة؟ الصغيرة، الفقيرة والتعيسة ؟” تابع وتعالى ضحكها ليطمئنه. وأكد له أنها تصفح، أنها تصفح له عن ذلك أيضًا، فقد كان ذلك قبيحًا في نظره بشكل لا يمكن وصفه، هذا التابيت، “قمة الفظاظة- “.
عندما كان صغيرًا كان يتخيل مياه الشلال تخرج من الحائط؛ تدب الحياة في الصورة البرية وترعب البيت كله. كان يجلس هنا مثل الآن، على هذه الأريكة، يحدق في نقطة معينة في عمق الصورة؛ يجمع نفسه فيها، يحبس أنفاسه، يحدق فيها ويركز فيها مطولا. بعد دقيقتين، تدمع عيناه، الصورة تشوشت وبدأت تخفق. نصف دقيقة أخرى والصخب الرهيب للانفجار من شأنه أن يكون قد هدم الجدار عليه، ليملأ أذنيه.
اندفعت المياه عندها بصخب شديد، بغضب عارم، مثل لكمة. ارتفع التلفزيون في الهواء وتحطم أثناء طيرانه مع أجزاء الستيريو والفيديو التي كانت فوقه. كما تطايرت شظايا الكريستال من جميع المزهريات وشظايا المزهريات والزهور البلاستيكية في كل الاتجاهات. السلة مع كل الكاسيتات، ساعة الحائط البندوليّة، ارتفعت جميعها على ظهر الموجة الضخمة التي تصاعدت باتجاه الأرائك.
كان يستقي متعةً خاصة من سحق الأرائك إلى أشلاء؛ سماع صرير القاطع الخشبي، خلع الكسوة الوردية المقزّزة، نتفها. وبنفس الزخم السريع، وَضْع المدفأتين الكبيرتين مقابل بعضهما البعض. مراقبتهما وهما يتدحرجان داخل الأورغان الكهربائي. إسقاط الثريا الزجاجية من السقف، قلعها من السقف، إسقاط الأورغان. والعدو مع الماء الكثيف، السميك، الذي يتضخم وينفجر بصوت عال داخل الخزانة. الاستماع إلى رنين المطر على أواني الخارصين المزهرة وزجاجات الكونياك وأباريق الشاي وأكواب النبيذ الرقيقة. لفصل الأجزاء السميكة من مفاصلها.
موجة من الفرح المرير غمرت قلبه حينها، صرخة رعب حماسية. كان الماء حيًا، حارًا، محمومًا، رغدًا، أبيض فضّيًا، مهتاجًا من الغضب، من طول سنوات الاختناق؛ يحدّ من غضبه في صورة التابيت المجمدة. كانت هذه المياه غاشمة منتقمة، تزرع الدمار؛ وها هي تقتحم الخزانة الآن. كانت الخزانة تهتز بشدة دائمًا، ويتردد في السقوط؛ كان يرتعد ويرفض الاستلام بنوع من العناد المحترم. لكن الموجة اندفعت واصطدمت به وألقت بكل – كتب الصّلاة وكل الكتب المقدسة، أكياس التفيلين ، قبعات الكيبا، البطاقات، الشمعدانات، الألبومات. وتواصل هزّ الجسم البنيّ الغامق للخشب الثقيل، الذي يرمي نفسه داخل أواني الفصح التي تنكسر داخله؛ حتى انه هو أيضًا، كان ينهار بلا حراك ، ينهار داخل الأنقاض، بصياح عظيم.
يهتز لصوت المفتاح في القفل “هالن حوناي”؟
لصوت والدته التي اكتشفت أن الباب مفتوح، “إيتان”؟
انفغر فمه واتّسعت مناخيره – ململمةً نفسًا عميقًا، جائعًا- وعيناه مغسولتان بذكرى الهذيان، حماقة أخرى في الصالة. كم هو مدهش أن يبقى كل شيء هنا على حاله؛ خلفية التابيت المزعجة تلك، الأرائك الصبيانية، مناديل الكروشيه، ساعة الحائط البندوليّة على التلفزيون، الأورغان القديم، كيف نجا كل شيء كل الأعوام التي مرت من وقتها؛ بقي كل شيء تماما على حاله.
على الحائط إلى يمينه، ما زال الشاه الإيراني يعرض بروفيله المتغطرس. فوق قماش نجود السفينة في البحر. وبابا سالي كان لا يزال واقفا عابسًا بينهما، متحدّبًا، ويغطي جبهته بكفه. في الخزانة، تكدّست كتب والده الذهبية والكتب المقدسة فوق بعضها البعض. هذا الدليل المَضروب لتعليم القيادة؛ دلائل الهواتف. زجاجة الكونياك الأبديّة التي تغبّر الكؤوس الكريستاليّة. كما لو أن الماء الذي غمر خيالاته عندما كان طفلاً حنّط هذه الصالة بمحلول حافظ. كبسوه مثل الفورمالين، في ولائه الشديد لذاته. عنيد ، لا يقهر، يكاد يكون مثل المتحف.
“لقد فكّرتُ”، تنفّسَت بثِقَل، متفاجئةً عند المدخل.
أكياس البقالة في يديها تهمس، “ظننت أنت للذهاب الآن، جونام[1]“.
ويبدو أنها هي أيضًا لم تتغير من وقتها. كانت دائمًا تبدو على هذا النحو، أكبر من سنها، ضخمة الجسم، رجولية قليلا. بكتفيها العريضين المتدليين وثدييها الصغيرين المفرغين. بكنزتها الزرقاء والخضراء، والتي تم استخدامها كثيرا. بعينيها الفضوليتين ، المتلهفتين ، وحاجبيها الجشعين.
“حالاً”، يصرخ بجفاء ، بتشتّت.
ينظر إلى الهاتف المحمول، على الساعة، “ما زال ثمّة وقت-“
“لا قَول لي إنّ قطارها سوف حضرَ الساعة اثني عشر وربعًا؟”
بلهجتها العبرية الفظيعة، هذه اللهجة الأبدية، “اثنان وربع-“
“مان تشي ميدونام؟ ماذا أعرف؟” والريبة، عنادها، وثقتها بنفسها المثيرة للغضب، “بأذني أنا سمعت أنك قائل اثني عشر ونصف”
دائمًا ما تمسكت بنفس الرواية، بنفس الصياغة مرارا وتكرارا، تناقش بحماس، بشراسة، لا تهزم أبدًا، “أنت قائل في ساعات الصّب-“
يقاطعها، يتجاهلها بنفاذ صبر، “ألم يتصل مرة أخرى؟”
يفلتر هذا الصوت المرير، المشدود الذي يحتفظ به فقط من أجلها، “ذاك الذي من العمل؟”
“ناه – “
تسقط الحقائب على الأرض: “فقط صديقك الصغير اليمني، تتصل في الصباح ليقول لك لماذا هاتفك الخلوي مقفل-“
ينهض متنهدًا من الأريكة- مع آرائها المسبقة المحرجة. هذه الآراء الظلامية، العنصرية- يأخذ الهاتف والمفاتيح من على الطاولة.
“حتى عمّاته”، قبضة يدها مشدودة، مزيّنة بالحلي، وتنتفض على الصدر، ” قلت عمّاته لا تدعه أن يأتوا إلى هناك”، تعض كعادتها الشفة السفلى، المنافقة، تواصل تلك الكلمات بالضبط، “لماذا ليست جميل، سوف يظنّ أنّك أنت فقط لا تريده أن يأتي “.
“م-ا-ش-ي”، يقاطعها مرة أخرى، هذه المرة بفظاظة ، “لقد سبق وقلت ذلك”.
“حُب جونام”، تتجاهل تغيير اللهجة، تخشخش في الأكياس، “دور ميشا هالا تو بورو هاموم كون غي مان حوراك –”
وكيف تصر دائمًا على التحدث إليه باللغة الفارسية، تجبره على الفهم، لمعرفة هذه اللغة. على الرغم من أنه لا يتحدث بها أبدًا، وعلى الرغم من أنه دائمًا ما يجيبها بالعبرية ، بعبوس.
“ليس الآن، سأستحم في المنزل -“
هو يستمد سرورًا مخجلا لرؤية وجهها يسقط، يهان، ” لماذا تُدعى جونام؟” تتعجب، تقترب منه، “مان براش أوتاحا دوروس ميكونام”
“أنت”، ينفجر في لحظة، صوته يردد قبل أن تنهي الجملة ، يعبس، “إياكِ أن ترتبي غرفتها، هل تسمعينني؟ إنها تنام عندنا على الأريكة، في منزلنا، أو أنّي، أو سأضعها في الغرفة وسوف أنام على الأريكة، سنرى لاحقاً”
تعبه، نبرة التفكير في صوته، كما لو كانا يدعوانها للاندفاع مرة أخرى عبر الشق، الترديد ببكائية، “لماذا، جونام؟ أختها تنام أفضل هنا”.
“أنت، أفضل”، صار متوتراً مرة أخرى، كما لو كان يتذكر غضبه، يرفع إصبعه أمامها. “لا تتدخلي حيث لا حاجة”، يشاهد أنفاسها تتوقف، “سمعت؟”
“حسناً، حسناً” ترتد مأخوذة. نظرتها مذهولة، فيها إعجاب، “سبق وقلت إنك تفعل هذا؟”
يُدحرج عينيه بسأم، ويغلقها بإحكام؛ جسده يسقط مرة أخرى في الأريكة. لا يوجد أحد في العالم يدفعه إلى الجنون بهذا الشكل، يهيج أعصابه على هذا النحو. فقط هي.
يحاول التنفس، تنظيم أفكاره، ولكنّ خشخشة الأكياس تعود من جديد.
“لأجل منزلنا هو أقرب إلى المستشفى”، تتعذّر الآن؛ بهمس، بضيق ، كما لو كان ذلك من تلقاء نفسها، “لهذا السبب قلت ذلك ، ليكون أكثر راحةً لها -“
دائمًا تَتَمَسْكَن، بشيء من السّذاجة، دائمًا عاجزة، “للذهاب إلى استر، لتكون بصحة-“
“لماذا، قلتِ سآتي إلى هنا، كي تزعجيني؟” وهو الآن يهدر بصوته، وجهه يغلي متشنجًا، “نعم؟ لأفقد عقلي؟ هل هذا ما تعتقدين أنني بحاجة إليه بالإضافة إلى كل -؟
“ناه، جونام” تصرخ في أعقابه، “لا، أبدًا-“
هو غاضب كما لو أن فرحة عظيمة دخلت في عظامه، “نعم؟ لتقفي فوق رأسي؟ لتتسببي في جنوني؟”
للخلافات الدّائرة بينهما هيكل داخلي، وهو نظام ثابت يتكرر منذ سنوات. مثل أدوار في مسرحية. ها هو الآن، على سبيل المثال، يعرف أنها على وشك أن تثور، وستقوم بتوبيخه مثل صبي صغير.
“حسنًا، اهدأ، هيا اهدأ”
وها هو يتطاير الشرر منه، يسخر بازدراء، بحماسة، على نفس اللحن الممجوج، يرتفع ويهبط”، فلترقد هنا، لا، فلترقد هناك، لا فلترقد هنا”
“حُب باس كون!” تتوسل، صوتها متألم، بأنين حاد، “إيتان ، باس كون ، يكفي!”
يهبط الصمت بينهما.
“من المؤسف أنت تقتل نفسك هكذا”، ينكسر صوتها، يتلهف عليه.
عيناها تذوبان، تحنّان، تمدّ يدها وتتقدم للتربيت عليه، “لا تقلق”
يرتد ممتعضًا، كما هو الحال في حالة الاشمئزاز، “دعيني الآن”
“الله كبير جونام”، تتمتم بأسف، بنيّة كبيرة “كل شيء سيكون على ما يرام، إن شاء الله”
“حسنًا، اتركيني”، ينهرها، يقاومها، يختنق حلقه فجأة.
لكنها تقبّله، تمسّده، تلقي بنفسها على عنقه. تعانقه وتجلب رائحتها إلى أنفه. تلك الرائحة العميقة، الحادة والمسكرة. تداعب وجهه وملمس يديها قريب، حميمي، مألوف حدّ الحرج، “سأموت عليك”، تتأوه بتماهٍ، تهز قلبه. “كل شيء سيكون على ما يرام، جونام، لا تقلق-“
“سئمتك، ألا تفهمين؟” يوبّخها بصوت متصدّع. يزفر بيأس في لحمها، يغلق عينيه مهزومًا، ” سئمتك بحق-“
“حُب جونام”، تقول وتفك العناق، تمرر يدها بصفح في شعره، “سيكون الأمر على ما يرام إن شاء الله ، الله كبير-“
وعندما تتحرك شفتاها، تتمتمان بصمت، تنتحبان نحو السقف، يصحبها وهي تبتعد مع الأكياس إلى المطبخ. تأخذ معها الصلاة لأجله إلى هناك، الصلاة التي تطول، حيث تتضرّع وهي تضع منتجات الحليب في الثلاجة.
ينهض الآن ويقف على رجليه. وعلى الحائط خلف الأريكة يرى، يتذكر. أن شيئًا ما مع ذلك تغير هنا. إلى يمين الصورة بالأبيض والأسود، وثيقة زواج والديه. إلى يمين الشّابين المذهولين اللذين يحدقان به منذ أن كان صبيًا ، مؤطران بإطار ذهبيّ؛ أضيفت قبل بضع سنوات، صورة ملونة لامعة لأخته باتيا وزوجها يارون تحت مظلة الزفاف. ثم أضيفت صور عيلاي مع باقة عيد ميلاد ونعماه عندما ولدت للتو. عن اليسار، قبل أكثر من عام، في الصيف الماضي، تم تعليق صورة له ولإستر أيضًا. تتوهج عيناها نحوه من هناك، تضحكان ، مُجمّلتان بالمكياج، ماذا كان سيفعل بدونها، كم كان ضائعاً قبل أن يقابلها، كم كانت وحيدًا، إنها سعيدة، بابتسامة منفرجة، بالإمكان رؤية أنها كانت ثملة قليلاً هنا؛ هو أيضًا جوارها يبتسم كالأحمق. وهي تنظر إليه ونظرتها تعده بأنّ كل شيء سيكون على ما يرام. سيكون خيرًا، تخبره عيناها. وبأنه هنا، بجانبهم، على قطعة الجدار الفارغة، البيضاء، ستُعلق صورة طفلهما. إن شاء الله، سينجبان طفلاً إن شاء الله.
[spacer height=”20px”]
[1] اللغة العبريّة التي تستخدمها هذه الشخصيّة على طول الحوار في القصّة هي لغة غير سليمة النّطق والنّحو، وقد تُرِجمَت كما ظهرت في النصّ الأصليّ.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع