اقرؤوا في:
لا أعلمُ كَم من الساعات كنتُ قد قضيتها في الزنزانة الانفراديّة. كنت وحيداً مع جدران أربعة باردة صامتة. لم أكن أسمع صوت أحد في تلك الزنزانة المعتمة. وأعتقد أن أحداً لم يكن يسمعني. “للجدران آذان”. هكذا يقول المثل الشهير. لكن الجدران التي حوصرت بينها كانت خرساء وصماء. كانت تبتلع صرخاتي دون أن يرد عليّ أحد. أحياناً كنت أسمع قرقعة الأبواب الحديدية مثل رعود مجنونة تتبعها زخات من السباب والشتائم تمتزج بصرخات مذعورة. وبقدر ما كانت الشتائم مقذعة وموغلة في الفحش، كانت الصرخات مخنوقة، عميقة ويائسة. ثم كانت جبال الصمت تلقي بظلالها الثقيلة على زنزانتي وروحي وذاكرتي. كنت أرغب في التبول. لم تكن رغبة بقدر ما كانت ضرورة وحاجة ماسة لا بد أن أقضيها مهما كلف الأمر. البرودة التي كانت تعم أرجاء الزنزانة الصغيرة زادت من حاجتي إلى التبول. امتلأت مثانتي وظننت أنها توشك على أن تنفجر. لففت نفسي على نفسي كالقنفذ، حاولت أن أخفف من حاجتي بالضغط على أصابع قدمي ورجلي والانكماش قدر الإمكان. حين أمسك حارس السجن الضخم ذو الوجه المتجهم بمعصم يدي ورماني مثل كيس إلى قعر زنزانتي بدأت حاجتي إلى التبول. رجوت الحارس أن يمنحني نصف دقيقة لأقضي حاجتي الملحة. لمعت استغاثتي بين شفتي وأذنيه المختومتين كسراب الصيف. رجوته مرة أخرى. رفعت صوتي قليلاً وبنبرة مليئة بالتضرع وإظهار المسكنة. قلت لحارس الجحيم ذاك: “كُرمى لله. إن كليتي تؤلمني. دعني أذهب لقضاء الحاجة. يمكنك أن تعد للعشرة وستجدني عائداً إلى مكاني هنا”. ابن الذئبة ذاك، ذو الوجه الكالح بدل أن يدعني أذهب، بصق على وجهي، شتمني ثم مضى وهو يصفر بلحن أغنية كنت أحبها. تذكرت وأنا في تلك الحال جملة كان يقولها والدي: “يا بنيّ إن الله تعالى وضع نوره في الوجه الحسن. فإن كانت لك حاجة فاطلبها من ذوي الوجوه الحسنة. إنهم لن يردوا لك طلباً. الحديث يقول أطلبوا الخير عند حسان الوجوه”. صدقتَ يا أبي. قلت لنفسي بصوت مسموع وأنا أسترجع صورة حارس السجن الكريهة التي لم تعد تفارق مخيلتي. توقف الزمن. صار مثل حمار عنيد توقف وسط وحول كثيفة. مع كل ثانية مرت، ازدادت حالتي سوءاً. صرت أتلوى مثل ثعبان جريح. نسيت كل شيء إلا حاجتي إلى التبول. تذكرت مشاهد من طفولتي. كنا صغاراً أشقياء، نتوقف في رأس أحد الأزقة أو على قارعة طريق نرفع الدشداشة أو نخلع البنطلون ونتبول. تذكرت حين كنا نستيقظ صباحاً، وقبل أن نغسل وجوهنا كنا نخرج إلى الشارع لنتبول ونستمتع بمشاهدة البخار الذي يعلو بقع البول وسواقيه التي تسيل على الأرض. أما حين كنا نقف تحت المطر لنتبول، فقد كانت تأخذنا رعشة لذيذة لا يمكن وصفها. لعنت هذه الحياة القذرة وأنا أتذكر تلك المشاهد. ألهذا الحد يمكنها أن تبخل علي بدقائق قليلة أفرغ فيها مثانتي المنتفخة؟ كيف أصبح التبول منتهى أملي في هذه الليلة اللعينة؟ كدت أتبول في ثيابي. رغبت في ذلك حقيقة لكنني تذكرت أنني أرتدي لأول مرة بنطالاً أهدتنيه خطيبتي. “لا. إنها فكرة سخيفة أن أتبول في هذا البنطال حتى لو قامت القيامة”. همست لنفسي. قاومت. منيت نفسي بأن هذا الكابوس البشع سينزاح قريباً. بعد مضي ساعة من الوقت سمعت صوت باب الزنزانة. كنت قد تكورت على نفسي حتى أمنع مثانتي من أن تفلت ما تراكم فيها. من خلال نور شحيح جادت به كوة صغيرة في أعلى أحد الجدران تبينت وجه القادم صوبي. لم يكن ذلك الحارس الكريه. كان شاباً حسن الوجه، ممشط الشعر ونظيف الثياب لا يحمل في يده شيئاً. قلت: جاء الفرج. هذا هو الذي كان أبي يتحدث عنه. بالتأكيد لن يرد طلبي التافه. قمت واقفاً وابتسمت في وجهه. ابتسم هو أيضاً. لا أدري بالضبط ربما لم يبتسم بل تهيأ لي ذلك. كانت ثمة ابتسامة طبيعية عذبة مرسومة على شفتيه. تلك كانت جزءاً من ملامح وجهه. قبل أن ينطق بحرف تضرعت إليه: أرجوك اسمح لي بالذهاب للتبول. رفيقك لم يأذن لي. كليتي تؤلمني وأنا… لا أتذكر كيف أنهيت جملتي. لم أشعر إلا وذلك الحارس ذو الوجه الحسن يهجم علي كالعفريت ويسدد لكمات متتالية إلى وجهي، يركلني في كل مكان من جسمي. لم يميز بين وجه ورأس وقدم وبطن وصدر. كان يضرب عشوائياً وبأقصى قوته. وليته اكتفى بالضرب، بل فوق ذلك كان يشتمني بأقذع العبارات، يشتم أخواتي وإلهي وديني. لا أتذكر كم دامت حفلة الضرب تلك لكنني أتذكر جيداً أنه حين انتهى من ضربي ودعني بقوله: تفو.. فأر قذر. بعد خروجه شعرت براحة كبيرة.لم تعد تنتابني تلك الرغبة الملحة في التبول. أحسست كأن جبلاً انزاح عن صدري. استغربت الأمر! بعد كل ذلك التعذيب ينتابني شعور بالراحة؟ حين رفعت يدي عن الأرض الباردة كانت مبللة. قلت لنفسي لا بد أنني غارق في دمائي. لكن ذلك لم يكن دماً. كنت قد تبولت. تبلل البنطال الذي كان هدية خطيبتي. كأن زقاً تمزق وسال ما في جوفه سال بولي على أرض الزنزانة. فوق بقع البول ارتفع بخار بطيئ وبدأ يرسم ذلك الوجه الحسن في فضاء الزنزانة.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع