اقرؤوا في:
فتحتُ عينيّ على العالم في مدينة بطفولة هامدة. فتحتُ عينيّ في ساحة المعركة. لم يخبرني أحد من هم الجنود، أو ما الاحتلال.
نشأت على فكرة أن الشاذ هو الطبيعي، وأن الأشخاص الذين يثيرون الخوف متى وأينما ذهبوا، ليسوا منا.
عندما فتحت عيني على العالم، ظننت أن الشبان والمراهقين الفارّين من الجنود، كانوا يلعبون لعبة الغميضة أو يمارسون هوايتهم في لعب الغميضة.
كنت مخطئا.
مع مضيّ الأيام والأسابيع والشهور وربما الأعوام، صرتُ أدرك بأن هؤلاء الرجال المسلحين هم العدو، الاحتلال، وأولئك الذين يسعون فقط إلى القتل.
المرة الأولى التي كنت فيها قريبًا جدًا منهم وأنا رفقة والدتي نسير في الشارع الرئيسي في الطريق إلى السوق. كنت أبلغ الثالثة من عمري.
قدمت المركبات من بعيد وأخذ الناس يركضون.
فجأة شدّتني والدتي إليها، حملتني وضمتني بينما كانت تنظر إلى مركبات الجيب العسكرية الثلاث أثناء مرورها.
أحسستُ بنبض قلبها وهي تعانقني. عندما سرحتني، شعرت بِسَيلٍ من الراحة في أطرافي تبعته فورةٌ من الارتباك.
في تلك اللحظة، أدركتُ أن هناك خطأ ما. من بعدها، لم تصطحبني إلى السوق معها أبدًا.
كان اسم أول لعبة مع أترابي في الحارة “يهود وعرب”. في المرات الأولى، لم أمانع فكرة أن أكون يهوديًا، وهو ما يعني في اللعبة “الجيش”.
اجتمعنا يومًا في الحارة لنلعب اللعبة ذاتها وكنت في الرابعة من عمري، ولأني كنتُ الأصغر سنًا في المجموعة، اتخذوا قرار أن أكون “الجيش”.
– “كلا”. قلت، “أريد أن أكون عربيًا”.
– “لا، نحن العرب، أنت اليهودي، وأنت معهم”، أشار أحد الأطفال الأكبر سنًا نحو المجموعة.
لم أكن سعيدًا بذلك، وأجبت:
– “لا أريد أن أكون الشّرير. لن أكون جنديًا”.
شعرت بالغضب وحِدتُ بعيدًا، ثم جلست على إحدى الكتل الأسمنتية جوار جدار جيراننا أرقبهم يلعبون. كان العرب يرشقون “اليهود” بالحجارة ويسبّونهم، فيما الصّبية يلعبون دور الجنود ويحاكون إطلاق النار عليهم مصدرين أصواتًا من شفاههم. بعد أن فرغنا من اللعب، اعتدنا على إنشاء نقطة تفتيش بنيناها من الصخور وأغصان الشّجر، الأمر الذي أجبر المركبات على الإبطاء فيما نحن نمسك الهراوات الخشبية، ونحاكي البنادق.
عاملنا السائقون على نحو مختلف. بعضهم مدحنا بقوله “أبطال” مضفيًا بهجةً بإظهار بطاقته لنا. أحيانا، كان الأمر ينتهي بنا مع متطرفين يأخذون في شتمنا من بعيد، ثم يعلنون عن نهاية اللعبة.
كلّ حركة، كلمة، وكلّ لعبة تشي بضيقِ طفولتنا وسحرها في غزة. سرقوا طفولتي، أمام عينيّ، فيما ظننتُ أنّ هذا هو الأمر الطبيعيّ.
وقعت عيناي، يومًا، على جريدة ألقاها أحدهم في الشارع. لطالما امتلكت شغف النظر إلى الصور في الجرائد. تحركت نحوها بتؤدة وقدماي العاريتان كساهما الغبار من أثر الرّكض والمشي في الشارع، رفعتها وأخذتها إلى ناصية الشارع، عند مدخل منزلنا. أخذت أقلب صفحات الجريدة، صفحة تلو الأخرى، محاكيًا أبي وهو يقرأ الجريدة، لكني كنت أبحلق في الصور فقط. فجأة، ثبتت عيناي على صفحة تطفح صورًا. كانت صورًا ملونة. صور نساء يبكين وجثث ودماء وأطفال قتلى وجنود مسلحين.
وجدتُني أركع، أدنو من الجريدة أكثر، أحشّفُ عينيّ، محاولا تفحص جثث الأطفال.
“لماذا لم يصرخوا؟” رنّ الصّوت في أذني. بعد سنوات، أدركتُ أنه لا يمكن الإنصات إلى صوت الأطفال في المجازر الكبيرة، وحدها أصوات الرصاص والبنادق تعلو.
قضيت ما يربو عن نصف ساعة في تأمل الصور. صورةً صورةً. انتابني إحساس بالغضب فجأة، وأنا أسيطر على نفسي، حملت الجريدة وذهبت إلى أختي الكبرى..
-“ارمِ تلك القمامة”، صرخت أمي من بعيد، مشيرةً إلى الجريدة. “والدك سيحضر لك غيرها غدًا”.
لم أنصت إليها، فتحت الصفحة التي كانت فيها الصور وسألت أختي الكبرى:
“من قتلهم؟”-
نظرت إليّ، ثم نظرت إلى الجريدة وقرأت قليلا، ثم ردّت قائلة: “الجيش”.
-“لماذا؟”، سألتها
صمتت لبرهة من الوقت ثم ردّت:
-“لأنهم مثلنا، فلسطينيون”.
-“وهل سيقتلوننا أيضًا؟”، سألت.
-“لا. في لبنان، صبرا وشاتيلا، حدث هذا منذ زمن”، قالت رافعةً يدها إلى مستوى وجهها بحركة رجعيّة إلى الخلف: “زماااان، زماااان”، بطريقة تبعث فيّ الطمأنينة وتبدّد مشاعر الخوف.
لعلّها شعرت بالخوف العميق في كلماتي.
منذ تلك اللحظة، لم تغادر صبرا وشاتيلا ذهني ولم أنس المجزرة. كما لا ينسى أي طفل المرة الأولى التي اعتلى فيها متن السفينة، أنا أيضًا لم أنس المرة الأولى التي التقطت فيها الجريدة واستُقبلت بهذه البداية القاسية.
منذ ذلك اليوم، زاد ارتباطي بالجرائد. في يومٍ، وجدني والدي أجمع الصحف في الشارع محاولًا تأمل الصّور فيها.
“ارمها”، قالَ صارخًا.
-“أريد أن أرى الصّور”، أجبته.
-“حسنًا، سأحضر لك غدًا جرائد جديدة”، ردّ عليّ وأمرني بالدخول إلى المنزل.
في وقت لاحق من الأسبوع ذاته، عثرتُ على كنز. وجدته في غرفة أخي، تحت مرتبة أحد الأسرّة الكبيرة في المنزل.
كان هناك ما يقارب عشر مجلات ملونة. وكان اسم المجلة “عبير”- مجلة قومية تضمّنت صورًا ملونة عديدة لفدائيين ومطاردين، أي مقاتلين مقاومين ومطلوبين. قضيت أيامًا عديدة، أستيقظ من نومي، ألتقط مجلةً وأبحث باستمرار في الصور دون أن أتمكن من قراءة سطر واحد.
في ذلك الأسبوع، بدأ والدي بإحضار جريدة القدس بعد عمله. كان يشتريها يوميا إلى أن تقاعد. انتظرت عودته من العمل يوميًا. بمجرد أن يلوحَ في الشارع، أركض صوبه حافي القدمين ملتقطًا ما كان يحمله؛ فواكه أو خضروات، والجريدة.
كانت إحدى شقيقاتي الأكبر منّي سناً، اللواتي اعتدن القراءة، تأخذها مني، وتناولني الملاحق الثقافية والرياضية ريثما تنتهي هي من قراءة الجريدة. كان فيها صورٌ كثيرة، وخالجني شعورٌ بالرّضى. عندما عادت منظمة التحرير الفلسطينية، انضافت صحيفتان أخريان إلى صحيفة القدس، هما “الحياه” و”الأيام”، وكنّا أنا وأخواتي الثلاث الأكبر سناً نتنافس من سيقرأهما أولاً.
عندما كبرت، حاولت أن أتخيل طفولتي بدون الصحف، بدون المجلات، بدون الصور، بدون الكلمات ورائحة الورق. لولاها، لصار عالمي فوضى، ولربّما كان قد انهار. بالنسبة إلي، كانت الصحف والصور هي العالم الذي يأخذني من لعبة “يهود وعرب”. كانت صراعي اليومي لتجديد عالمي وطرح الأسئلة المؤجلة التي ما زلت أجيب عليها، إلى هذه السنّ، وقد تجاوزتُ الثلاثين.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع