اقرؤوا في:
اليوم هو الجمعة. ربما أكون مخطئة، فقد يكون السبت.
يا للحماقة!
لِمَ لا يكون الأحد أو الإثنين؟
ليس هذا بشيء يستحق التفكير أو حتى مجرّد النظر إلى التقويم الذي لم أعد أتذكر إلى أي عام يعود أو لماذا ابتعته.
كان صوته الشيء النديّ الوحيد الذي أثار اهتمامي وسط جفاف الأشياء ورتابتها. نداؤه هذا الصباح سحق كلّ هاجس أو فكرة. قال لي:
-أما زال هناك مكان لي في مخبئنا الصغير أم أنك مللت الانتظار؟
-غبت طويلاً.. طويلاً جداً.
-لكن عدت كما وعدت. قال هذا ثم اختفى صوته مخلفاً جواً من الانتظار العذب بعث فيّ دفء أيام الطفولة عندما كنا نقضي ليلة العيد وملابسنا الجديدة تشاركنا السرير، وارتقاب الفجر وقبلات العيد والأراجيح والحلوى والحرية الموعودة.
كلّ محاولاتي للتشبث بالوقت ذهبت مع صوته. لم يترك لي سوى الصمت وصوت احتكاك حبال أراجيح العيد.
كان الفجر هناك عند النافذة، يلملم نعاسه، تفوح منه رائحة شتاء متعب شعرت به يتسلل إلى داخلي حتى استغرقت في نوم عميق.
أحسست باطمئنان واثق، فالنوم هو ما تمنّيته منذ زمن بعيد. حلمت بأشياء جميلة. ليس مهماً ما هي، إلاّ أنها كانت جميلة بالتأكيد.
لم أكن أفكر بشيء يمكن أن يخدش تلك الأحلام لولا قرعات الباب القوية التي تجاهلتها أكثر من مرة استسلمت لها بعد أن فشلت في الإمساك بآخر حلم!
حاولت النهوض لمعرفة الطارق لكنّ ساقيّ خذلتاني.
تحسستُ جسدي. لم أستطع تحديد مكانه. فكان يرتفع تارة وينخفض أخرى والسرير هو الحد الفاصل بين الأعلى والأسفل..
شعرت بفراغ ثلجي يهبط إلى أعماقي وكأن تفاصيل الزمن التي أخذت بخناق الظلام وشكلت معالمي يوماً ما كانت معبأة في علبة انفتحت وتناثر ما فيها في غفلة من الأشياء.
انفتح الباب وأقبل نحوي شخصان لم أميز سوى جسديهما. كنت سعيدة بذلك النعاس اللذيذ الذي انقدت إليه بسهولة. لذا لم تكن لدي رغبة في معرفة الوجوه.
استفزتني نظرات أحدهما وهي تحدق إلى وجهي بعناد وقح. فتحت عينيّ. كان وجهه بلا وجه! لم يكن غير هيكل عظميّ مدّ كفّه العظمية إلى وجهي بتردد وأغمض عينيّ.
فتحت عينيّ برغم الأسئلة التي تزاحمت في رأسي. نسيت وأنا أنظر إلى ما تبقى من وجهه، أن أخاف أو أن أتكلم أو حتى أن أصرخ. لقد تجسدت الأفكار والتنبؤات والأشياء غير المؤكدة في هيئة هيكل عظمي توشح بالسواد.
أعاد النظر إلى وجهي بخوفٍ تغلغل إلى شرايين حنجرته فجاءت نبرته مرتعشة وهو يردد كلمات من خلال فكّين عاريين يرتجفان.
تجاهلت كل تلك الكلمات وتعلقت بخيط السعادة الذي تبثه في وهي تنظر إلى الوراء بترفع غريب.
كان قرص الشمس قد حضر أيضاً. كان جميلاً ومغرياً كرغيف حار تصوّرت أني أستطيع قضمه كما في الرسوم المتحركة. ضحكت من نفسي وأنا أرى الشمس تدغدغ وجهي. في لحظة ماء، لكنها غير معروفة على وجه التحديد، حملني الهيكلان العظميان إلى خارج الغرفة. استدرت، وجدت الشمس تغادر مكانها وتتسلل إلى داخل التقويم لتبقى هناك. فرحت، لأن ما ظننته قد حصل تماماً مثلما توقعت: أن نكون شيئاً غير مرغوب فيه وليس هناك ما يؤسف عليه.
كانت الشوارع شعثاء وكأن هناك حدثاً يموّه الأشياء، لنقل يجعلها أكثر سطحية. فتشت عن الآس الذي زرعناه عندما كنا أطفالاً حول مخبأ لعبنا إلاّ أني لم أجده. أتذكر أنه قال لي:
-عندما أعود سنجد الآس رفيقاً نداعبه ونحن نسير معاً.
أقسمت له حينها بأنّي والآس لن نكبر من دونه.
-والزمن؟ قال هذا بدهشة طفل ذكي.
سنختبئ منه بانتظارك.
خطر لي أنّنا وُلدنا في زمن موغل في القدم وأن الآس والانتظار ماض يداعب شغاف القلب والذاكرة، إنّا لم نكن صغاراً أو كباراً أو قد نكون نسينا الأيام خلف مخابئ اللعب.
منذ الوهلة الأولى، بدأ حاجز رهيب ينمو بيني وبين هذه المدينة الموحشة. كان الضجر يلف كل شيء.
رأيت صفاً يقف أمام محل قصاب اعتقدت أني أعرفه جيداً.
ناديته: يا عم! يا عم!
لكنّه تظاهر بعدم السمع وعندما استدار لم يفعل سوى الانحناء.
كان هيكلاً عظمياً هو الآخر!
كنت أستنجد بالذاكرة والنسيان معاً وأنا أرى الليل قد جثم هناك بلا رحمة حيث تعرت الحياة وبدت فارغة إلاّ من الموتى!
أخذ الجمع العظمي المكتسي بالسواد يلتف حولي مشكلاً غمامة سوداء.
لم يكن يبدو أن أحدهم يعرف الآخر أو يكترث لوجوده. كلّ واحد منهم كان وحيداً بطريقة ما.
كنت قادرة على التكلم بصوت واثق وخلق كلمات جديدة.
تحدثت بكل ما أعرفه لكني عبثاً حاولت إيقاظهم. كانوا يثيرون حزني. شيء ما في داخلهم قد هرم وتحجر. كنت أقول لنفسي لا بدّ أن هناك شيئاً كبيراً مفقوداً.
كانوا لا يسمعونني. شعرت بصوتي مكسوراً حتى بكيت. توقفت عن البكاء. تذكرت أن الكبار لا يبكون! ترى لمَ على الكبار أن لا يبكوا؟
كانت أمي تقول لي: عيب عليك، “الكبار لا يبكون”.
منذ ذلك الوقت وصوت أمي يطاردني “الكبار لا يبكون”.
ربما ما زلت طفلة!!
كان الموكب الذي حملني يمر بأزقة وحدائق مقفرة وكأنهم بذلك يقولون لي “لا يوجد ما نحزن من أجله”.
“البرق يلمع أولاً ثم يهطل المطر”، سمعت هذا مرة. لكن البرق كان شديداً ولا مطر.. كنت يائسة وعلى وشك أن أغمض عينيّ عندما رأيت وجهه يطل مع الشهقات الأخيرة للبرق.
خجلت من التحديق إلى عينيه إلى ما لانهاية. كان حضوره كثيفاً كالمطر الذي بدأ يهطل. عندها سار بي الهيكلان العظميان بموكب إلى خارج المدينة حيث لاحت في الأفق أغصان آس. صرخت مهللة.
الآس أخيراً!!!
***
-داعبت وجهك بالآس لأوقظك. كنت تحلمين. أليس ذلك؟
فتحت عينيّ. وجدته جالساً على حافة السرير يحمل غصن آس.
-كنت أحلم بك. كنّا صغاراً.. بل كباراً. لا أعرف بالضبط.
كانت هناك مدينة هياكل عظمية. وكنت حزينة ووحيدة، وكـ… توقفت عن الكلام عندما رأيت ابتسامته تسكت الكلمات..
قلت له بخجل: أعرف أنك تسخر مني.
نظر إليّ بحنو ثم همس في أذني: أبداً. أنا رأيت هذا أيضاً.
تريد حفظ لوقت لاحق؟
اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع