المصوّر

1 دقائق

المصوّر

1 الدقائق

Remove from my favorites

كان موت جدّي “أبو كامل” – رحِمَه الله- يمثّل نهاية حِقبة، كنتُ أرى في شخصه ما يشدّني إلى الماضي؛ ذلك البُعد الموغل في الأزليّة، حيث أستلهم لنفسي صور الحياة، كما أحبّها أن تكون، صورًا مرهفة مضمّخة بطيبٍ نبويّ، مشرقةً على برعم ترعرعَ بعد الطّوفان.

أخذتُ آلةَ التّصوير، وذهبتُ إلى حاكورة المرحوم جدّي لالتقاط صورة تذكاريّة لتينتِه المبارَكة، حيثُ كان من عادَته أن يستحضرَ تحتَها أرواحَ الشّهداء، ويشعلَ فيها لهب الذّكريات.

التقطتُ الصّورة بلِذّة وزَهوٍ، موقنًا أنّها ستكون ذكرى خالدة لجدّي العزيز، ودخلتُ بها غرفة التّحميض، لأخرجها إلى الوجود.

هناكَ في المختبر، وفي لحظات فوق بنفسجيّة مؤثّرة، خرجت عيوني من محاجرها من فرط الدّهشة، فقد كان جدّي أبو كامل في المسوّدة، يجلس تحت التّينة التي صوّرتها قبل لحظات!

ما الّذي يفعله جدّي هناك وقد مات من شهرين؟!

كان- رحمه الله- يجلس الجلسة نفسها التي اعتادها، يستحضر روح فارس العودة، ويمتطيها أسطورة للرّيح، ويدخّن سيجارته “العربيّة” بشغفٍ وتأنٍ، فيخرج دخانها مضمّخًا بطيبٍ نبويّ.

خرجتُ من انفعالات غرفة التّحميض إلى وعيي الكامل بحاكورة جدّي، لعلّي أحلّ مشكلة هذين العالمين المتناقضَين. هناكَ في الحاكورة وتحتَ التينة تحديدًا، رأيتُ جدّي –رحمه الله- يجلس الجلسة نفسها التي اعتاد عليها، يستحضر فيها روح فارس العودة، ويمتطيها أسطورة تشقّ عباب الغيب، ويدخّن سيجارته نفسها من الصّنف “العربيّ” بتأنٍ وشغف، فيخرج دخانها متضمّخًا بعطرٍ نبويّ عمره من عمر سيّدنا نوح عليه السّلم.

هربتُ مدهوشًا لا أجد تفسيرًا لما رأيتُ، وانتابتني حالات من الصّراخ والهلوسة والشّطح، حتّى خرج الأولاد إلى الحارة، وأطلّ الشّيوخ من شرفات المنازل، مستفسرين عن سبب صراخي.

واقتدتهم إلى تينة جدّي، والصّورة في يدي، وأنا أقصّ لهم سرّها، وسرّ الرّوح التي تظهر فيها.

هناكَ في الحاكورة لم يرَ أحدٌ من الّذين اصطفّوا حول الشّجرة أكثرَ من شجرةِ تين كبيرة عارية. قالوا لي: إنّك تشطح، وهذه صورة قديمة التقطت عندما كان أبو كامل حيًا يُرزَق.

أثّرت هذه الحادثة في نفسي لشهور عديدة، قررتُ بعدها ترك مهنة التّصوير، فكانَ لي أن أصبحَ شاعرًا.

بعد أن كتبتُ قصيدة “المصوّر”، وهي قصيدتي الأولى، قرأتُها بيني وبين نفسي. بعد لحظات قليلة لم أندهش حينما اكتشفتُ أنّها قصّة قصيرة جدًا.

هل ترغبون في شيء آخر?
21
جبران خليل جبران
وردة الهاني

© פרויקט הסיפור הקצר 2024

Made with ☕ and 🚬 by Oddity

البحث:

تريد حفظ لوقت لاحق؟

اشترك واحصل على حق الوصول الكامل إلى الخيارات الموجودة على الموقع

Short Stories
Straight to Your Inbox

Oops, this is a personal area feature.
The personal area is only available to subscribed users. Sign up now for free to enjoy all the personal area features.